ينطوي الاعتقاد بأن إسرائيل يمكن أن تقتنع بالحقوق المشروعة للفلسطينيين بوسائل الحوار، والكفاح السلمي، على سذاجة بالغة، حتى لو تعلق الأمر فقط بالحقوق التي أقرتها الأمم المتحدة.
وفي الحقيقة فهذه السلمية مجرد اعتقاد أيديولوجي آخر، لا علاقة له بمعرفة إسرائيل، ولا بالعقلانية ولا بالواقع. أولاً، لأن إسرائيل لم تقم بالوسائل السلمية والديموقراطية أصلاً، ونحن لسنا إزاء دولة عادية نشأت بفضل تطور المجتمع اليهودي في فلسطين، وإنما إزاء دولة استعمارية أنشأتها حركة سياسية ظهرت في أوروبا، وجلبت مجتمعها بوسائل الاستيطان، وفرضت نفسها في البلاد بواسطة السلطة الاستعمارية (بريطانيا)، وبوسائل القوة العسكرية.
ثانياً، نحن إزاء دولة استيطانية، ذات طابع اقتلاعي (للسكان الأصليين) وإحلالي (لليهود المهاجرين)، أي انها تختلف حتى عن النظام الاستعماري الاستيطاني العنصري (الأبارثايد)، الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا، والذي لم يطرد السكان الأصليين، ولا حاول مصادرة تاريخهم وحرمانهم هويتهم. ولعل هذا يفسّر أن إسرائيل ترى علاقتها الصراعية مع الفلسطينيين ذات طابع صفري، أي من طبيعة الصراع الوجودي، الذي يتضمن عمليات الإزاحة والنفي والمحو من الزمان والمكان، في المعنى والمبنى، أي أنها ليست علاقة إخضاع وتهميش واستغلال فقط.
ثالثاً، نحن إزاء دولة ذات طابع أيديولوجي - ديني، ودول كهذه حتى لو كانت تشتغل وفق القواعد الديموقراطية، فإنها تشتغل، أيضاً، وفق قواعد النظم الشمولية، التي تتأسس على الهيمنة على المجتمع، وتنميطه وفق مفهوم ثقافي وهوياتي أحادي وتعسفي. ولا شك في أن هذه القواعد تشتغل بنجاعة في المجتمع الإسرائيلي، بحكم أنه مجتمع مهاجرين - مستوطنين، تجمعهم الفكرة الصهيونية، القومية والدينية. فهؤلاء من جهتهم في حاجة الى خدمات الدولة وامتيازاتها. وفي المقابل فإن أجهزة الدولة (الجيش ووسائل الإعلام ومؤسسات التعليم والقطاع العام والضمان الاجتماعي...) تضطلع بدور ماكينة الصهر، التي تشتغل على خلق مجتمع مؤدلج، يعي ذاته، والآخرين، وفق المحددات التي رسمتها.
هذا هو الوضع الذي يقف إزاءه الفلسطينيون منذ أكثر من ستة عقود، في واقع دولي وإقليمي وعربي بدا مواتياً لقيام إسرائيل، ولتطورها، وتفوقها، في حين انه كان عاملاً كابحاً لكفاحهم، وحتى لكينونتهم كشعب.
القصد أن دولة هذه مواصفاتها لا يمكن أن تتخلّى عما سلبته من شعب أخر، بوسائل القوة والغلبة، وضمنه تشريدهم من أرضهم، وأن تعيد لهم كل ذلك، او بعضه، بوسائل الإقناع، والنضال السلمي. ومشكلة الكفاح السلمي لا تقع على عاتق الفلسطينيين فقط، وإنما تقع على عاتق إسرائيل أساساً، بحكم طبيعتها، ورؤيتها لذاتها. فحتى لو ذهب الفلسطينيون في هذا الاتجاه وتبنوا «الغاندية»، فإنها لن تثمر، مع الحالة الاستعمارية التي تمثلها إسرائيل.
ولعل معنى كهذا يمكن استنتاجه من هنه أرندت، أيضاً، في قولها: «لو ان استراتيجية غاندي الناجحة والقومية، التي قامت على مبدأ المقاومة اللاعنفية، وجدت نفسها، مضطرة لمجابهة عدو آخر - روسيا ستالين، مثلاً، او ألمانيا الهتلرية، أو يابان ماقبل الحرب، بدلاً من انكلترا - فمن المؤكد أن النتيجة ما كان أبداً من شأنها أن تكون رحيل الاستعمار عن الهند، بل مجزرة وخضوع عامان».
في المقابل، ثمة سذاجة وافتقاد للواقعية والعقلانية، في الاعتقاد بأن الكفاح المسلح فقط، على نحو ما جرّبه الفلسطينيون، طوال العقود الماضية، يمكن ان يحرر فلسطين، او يستعيد حقوق شعبها. هذا ينطبق، أيضاً، على الاعتقاد بأن الفلسطينيين وحدهم، بكفاحهم المسلح وبغيره، يمكن ان يهزموا إسرائيل، او أن يحرروا الضفة الغربية، مثلاً.
ربما يجدر لفت الانتباه الى اننا نتحدث اليوم عن تجربة بات عمرها خمسة عقود، وفي غضون تلك الفترة، مع أثمانها الباهظة، ليس فقط لم تتغيّر معادلات الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإنما تعرض مجتمعهم، ووجودهم، في الداخل والخارج للانكسار، والتهشيم، في حين تواصل إسرائيل تطورها وتفوقها في هذه المنطقة.
ما ينبغي ادراكه هنا أن إسرائيل تمتلك، في المربع العسكري، تفوقاً هائلاً، من حيث قوتها العسكرية، ونمط تسليحها، ومستوى إدارتها، وإضافة إلى ذلك فهي تمتلك قوة مضافة تتمثل بضمان الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، لأمنها ولتفوقها. وفوق قوتها العسكرية ودعم الدول الكبرى، تمتلك إسرائيل القوة النووية او ما تسميه سلاح «يوم القيامة».
وباختصار، فإن هذا يفيد بأن الكفاح المسلح وحده من دون أشكال المقاومة الشعبية، والعمل السياسي، لا معنى له كغاية في ذاته، إذ في هذه الحال لا يمكن تثميره، لا داخلياً في بناء المجتمع الفلسطيني، ولا خارجياً في إثارة التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، أو في جلب التعاطف الدولي. هذا أولاً. ثانياً، أن الكفاح الفلسطيني وحــــده بكل أشكاله، أي المسلح والشعبي والسياسي، يحتــــاج كي يثمر، أو حتى يحدث انكساراً في إسرائيل، إلــــى متغيرات عدة، يأتي في مقدمها: تغيّرات في المعادلات الدولية، وتغيّرات في البيئة العربية المحيطة، وتغيّرات ثقافيّة وسياسيّة في إسرائيل ذاتها، او أقلّه، يحتاج إلى واحد من هذه التغيرات. وثالثاً، فإن الفكرة الأساسية هنا تتعلق بضرورة إدراك الفلسطينيين أهمية ترشيد أشكال كفاحهم، وضمنه الاقتصاد في تصريف طاقتهم، والمـــوازنة في نشاطاتهم، بين حاجتهم لبناء كياناتهم ومؤسساتهم السياسية والمجتمعية، وبين كفاحهم ضد عدوهم، وأيضاً بين أشكال كفاحهم، ومستوياتها، وبين الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، حتى لا تتبدّد تضحياتهم، وكي يستطيعوا المراكمة على منجزاتهم.
قصارى القول، المشكلة لا تكمن في انتهاج المقاومة السلمية أو المقاومة المسلّحة، بقدر ما تكمن في المزاجيّة، والتخبّط، وعدم إخضاع الخيارات والتجارب للدراسة والتفكير والمراجعة، والقياس على إمكانيات الشعب الفلسطيني والظروف المحيطة. |