في ما يلي الحلقة الثانية الأخيرة من مقالة المبعوث السابق للامين العام للامم المتحدة إلى ليبيا طارق متري عن الاوضاع المضطربة فيها. وكان تناول في الحلقة الاولى (الخميس الماضي) التفسيرات المختلفة للنزاع، والتباسات العلاقة بالمجتمع الدولي، اضافة الى إشكالية الانتخابات في غياب جيش وشرطة "بالمعنى الحقيقي للكلمة".
لما كانت المجموعات المدربة والمتماسكة قليلة العدد وصغيرة، ارتأت الحكومة الليبية الموقتة الأولى تكليف فئة من كتائب الثوار مهمات الجيش وسميت درع ليبيا وبات المنضوون فيها يتلقون رواتبهم من الدولة، وفئة أخرى عهد إليها بمهمة الشرطة ودعيت اللجنة الأمنية العليا وصار أفرادها بمثابة موظفين في الدولة. بطبيعة الحال ظلت الولاءات السياسية للكتائب والعلاقات بين أفرادها وقياداتها على ما كانت عليه إبان الثورة وبعدها، ما جعلها معرّضة لتغليب حساباتها الصغيرة المحلية على أدوارها الوطنية الكبيرة.
ونتيجة لاكتساب كتائب الثوار الصفة الشرعية وحصولها على الامكانات المادية التي تؤمن استمرارها، فقد الكثيرون من أفرادها حافز العودة إلى الحياة المدنية وضعفت رغبتهم في الانضمام الى الجيش والشرطة. وتعثر بناء الجيش والشرطة بفعل غياب ارادة سياسية تدفع نحو إعادة تأسيسهما. لم تكن المشكلة تقنية أو متعلقة بعدم توافر الخبرات اللازمة، فبعثة الأمم المتحدة عملت في رسم الخطط والمباشرة في وضع الهيكليات التنظيمية والمساعدة في إطلاق عمليات التدريب، وأعدت أوراقا بيضاء لهذه الغاية ليست مستنسخة من تجارب اخرى، بل مستندة إلى تقويم دقيق للواقع الليبي. ولكنها لم تُستخدم وفي بعض الحالات لم تُقرأ.
كان تصور الحكومات المتعاقبة لمسألة دمج المسلحين في الجيش والشرطة محاطا بالغشاوة. وترددت في إقامة حوار مع الثوار واكتفت بمسايرتهم حينا والشكوى من ابتزازهم حينا آخر. أما كتائب الثوار فمارس بعضها ضغطا على المؤتمر الوطني العام وعلى الحكومة، ولم تقدم تصورا واضحا حول مستقبلها بل توقفت عند عدم الاستعداد للانضمام إلى جيش وشرطة ما زال فيهما أعداد كبيرة من ضباط النظام السابق ممن ليسوا جديرين بثقتها.
وانسحب موقف عدد من كتائب الثوار ومعها حلفاء من أعضاء المؤتمر الوطني العام من الإسلاميين وأصدقائهم على أجهزة الدولة الأخرى. أكثر من ذك، أدت الضغوط على المؤتمر الوطني العام إلى إقرار قانون العزل السياسي في أيار 2013 فجاء واسع النطاق ليشمل كل من أحتل منصبا على شيء من الأهمية في الدولة منذ عام 1969 أو عمل في اللجان والهيئات التي أنشأها القذافي وحرم فئة واسعة من الحق في تولي المناصب العامة. ورغم النصائح المتكررة والتحذير من آثار قانون من هذا النوع يشابه من حيث مفاعيله المحتملة قانون اجتثاث حزب البعث في العراق، تغلّب منطق اقصاء من اعتبُروا أعداء للثورة على فكرة المصالحة الوطنية التي لا تستبعد إلا من تلوثت أيديهم بالدماء وبسرقة أموال الليبيين.
وعمّق إصدار القانون المذكور الانقسام السياسي وتغيرت موازين القوى داخل المؤتمر الوطني العام، فخسر تحالف القوى الوطنية عددا من أعضائه ممن طاولهم القانون، وانفك عنه عدد آخر، لا سيما أن رئيسه الدكتور محمود جبريل، الشخصية البارزة التي تولت رئاسة المكتب التنفيذي المنبثق من المجلس الوطني الانتقالي، وقع ضحية العزل المذكور. ولم يكن الشخصية الوحيدة التي أدى صدور القانون إلى إبعادها. فالدكتور محمد المقريف، رئيس المؤتمر الوطني العام وزعيم المعارضة ضد القذافي طوال العقود الثلاثة الماضية، اضطر للاستقالة استباقا لاحتمال إقالته بموجب القانون، لأنه عمل سفيرا لليبيا في الهند من 1978 وحتى 1980 حين استقال احتجاجا على سياسات القذافي.
بعد ذلك انتهجت القوى السياسية غير الاسلامية طريق الدفاع عن النفس وبدت تشكك في شرعية المؤتمر الوطني العام واستاءت من تنامي نفوذ عدد من كتائب الثوار الآتية من مدينة مصراته، والتي سبق لهذه أن لعبت دورا كبيرا في الثورة يعترف به الكل من غير اجماع حول حق المدينة في حصة كبيرة من السلطة بحجة مكافأتها على هذا الدور.
ولجأت القوى الوطنية غير الاسلامية وغير المصراتية إلى سياسة مزدوجة: فسعت إلى تعبئة أوسع الفئات الليبية ضد كتائب الثوار التي وصمت بالاسلامية بل بالإرهابية، وهي بطبيعة الحال لم تكن كذلك ما خلا مجموعات محددة، واعتمدت بشكل متزايد على عدد من الكتائب والجماعات المسلحة التي تناصب مصراته او الإسلاميين العداء مثل كتائب القعقاع والصواعق من بلدة الزنتان وجماعات من قبيلة ورشفانة. بعبارة أخرى حضّت المدنيين على رفض هيمنة المسلحين عليهم وسعت في الوقت نفسه نحو تحقيق "توازن القوة" الذي يعوّق التقدم على طريق بناء الدولة. واستمر الطعن بشرعية المؤتمر الوطني العام وصولا إلى اطلاق حملة شعبية وإعلامية واسعة النطاق ضد ما سموه التمديد له. فقبل بانتهاء مدته في7 شباط 2013 استنادا إلى عملية حسابية بسيطة جمعت المهل الواردة في الاعلان الدستوري بصفتها مهل إسقاط، فيما هي مهل تنظيمية او مهل حضّ.
صعوبة التسوية السياسية: وأدت الحملة إلى اضطرار المؤتمر الوطني للدعوة إلى انتخابات مبكرة في حزيران 2014 . وعندما جرت الانتخابات تبين أن عددا كبيرا من الليبيين عزف عن ممارسة حقه في الاقتراع معبرا بذلك عن خيبة من العملية السياسية برمتها ومسجلا اعتراضه على سلوك النخب السياسية. فشارك في الانتخابات العامة الاخيرة أقل من 600 الف ليبي وهي نسبة تقارب ثلث من شاركوا في انتخابات تموز 2012 .
وفي الأشهر الفاصلة بين الحملة على المؤتمر الوطني العام وانتخابات مجلس النواب الجديد عاد الجنرال المتقاعد خليفة حفتر إلى الواجهة وأطلق عملية تهدف إلى استئصال الجماعات الارهابية، لا سيما منظمة أنصار الشريعة بدءا من بنغازي. واستطاع حشد المؤيدين في أوساط الجيش الوطني، وشن حربا شاملة لم تميز بين التنظيم الارهابي المذكور وغيره من كتائب الثوار في بنغازي والشرق. واستقوت بحركة حفتر القوى غير الاسلامية، أي ذاك المزيج من مقاتلي الزنتان وورشفانة والليبراليين والمحافظين والقبليين والفيديراليين وبعض أنصار النظام السابق، وظنت أن نجاح العملية العسكرية مشفوعا بالفوز المرجح في الانتخابات كفيل بضمان توليها السلطة والقضاء على نفوذ الإسلاميين إلى غير رجعة. ولم تستجب للدعوة الى الحوار قبل الانتخابات والتي قصد منها التخفيف من حدة المشاعر عند الطرفين المتصارعين والسعي للاتفاق بينهما على بعض قواعد العملية السياسية والتوافق حول أولية بناء الدولة. وافترض غير الإسلاميين أن الحوار سيكون لمصلحة خصومهم الإسلاميين وأنه يدعو الى تقاسم السلطة عوض مجرد القبول بنتائج الانتخابات.
بطبيعة الحال كان الطرف الآخر من المصراتيين والإسلاميين يتوجس من احتمال إقصائهم وشيطنتهم ونعتهم بالإرهاب وتحريض العالم ضدهم. وبلغ توجسه حده الأعلى بعد الانتخابات باسبوعين، فقام بعملية عسكرية أدت إلى بسط كامل سيطرته على طرابلس وعلى جزء كبير من الأراضي الليبية لا سيما المدن. ولم يبق لمجلس النواب المنتخب، والذي قاطعته الأقلية المصراتية والإسلامية إلاّ اللجوء إلى طبرق وبات مداه الحيوي محصورا في أنحاء من الشرق، دون سواه من مناطق ليبيا. بعد ذلك قامت في ليبيا حكومتان وصدر قرار من المحكمة العليا يقبل الطعن بدستورية تعديل الإعلان الدستوري وبالتالي إجراء الانتخابات على اساسه.
واليوم، لا نرى في الأفق حلا سوى تسوية سياسية مشرفة وهي ما تبدو صعبة التحقيق. أما الدولة التي كان بناؤها متعثرا منذ البداية فهي الآن عرضة لمزيد من التفكك بل الانحلال. ولعل النظر في الأسباب التي أوصلت ليبيا إلى حالها الحاضرة والبحث عن سبل وقف الانهيار مسألة بالغة الحساسية والتعقيد.
أكتفي بالقول أن المسؤوليات متقاسمة بين المجتمع الدولي والنخب السياسية الليبية وعدد من الدول المؤثرة في المنطقة التي نفخت في نار الاقتتال الداخلي. يبقى ان المشكلات الحاضرة تتصل أيضا بما تركه نظام القذافي من إرث ثقيل الحمل.
وقد تمر سنوات طويلة قبل التحرر من نيره. وهي تتصل، إضافة إلى ذلك، بإدارة متخبطة للعملية السياسية التي سبق فيها الصراع على السلطة إعادة تكوين الدولة. فعوض التوافق على أولوية بناء المؤسسات وإجراء المصالحة الوطنية ذهب الجميع بسرعة إلى المنافسة الانتخابية، وشكلت هذه المنافسة المستعجلة سببا إضافيا لتعميق العداوات القديمة وصناعة عداوات جديدة وتهديد وحدة ليبيا، وإن من دون تقسيمها. وتعوق العداوات هذه حكم البلاد وتجعل منها، إلى أجل غير قصير، مدنا وجماعات متجاورة او متناحرة، ومن دون دولة جديرة بهذا الاسم.
المبعوث السابق للأمين العام للأمم المتحدة الى ليبيا |