فيما كان الطيران الحربي الأردني يُغير على مواقع لجماعتي «داعش» و«النصرة» على حدود الأردن مع سورية (طولها نحو 370 كيلومتراً) والعراق (طولها نحو 180 كيلومتراً)، كان قاضٍ مدني أردني (أحمد القطارنة) يلفظ حكماً ببراءة عمر محمود عثمان، أبو قتادة، والملقب أيضاً بسفير بن لادن في أوروبا، ومن بين ألقابه الكثيرة في أواسط التسعينات «مفتي الجماعات المسلحة في الجزائر». علماً أن السلطات البريطانية كانت أقدمت قبل نحو سنة على ترحيله إلى بلده الأصلي، الأردن، لما تشكله إقامته في لندن من أخطار وتساؤلات.
والحال أن تبرئة أبو قتادة قد تبدو غير منسجمة مع إعلان الأردن انخراطه في الحملة الدولية على «داعش»، ذاك أن الرجل مرسوم كأيقونة في الوعي «الجهادي»، وهو أعلن قبل تبرئته أنه ضد التحالف الدولي لضرب «داعش»، وقال إن خلافه مع هذا التنظيم لا يرقى إلى خلافه مع تحالف «غير المسلمين». وأبو قتادة وإن يكن قد أعلن أن عناصر «داعش» هم «كلاب أهل النار»، مؤيدٌ بفتاواه وبعلاقاته لجماعة «النصرة» التي يستهدفها أيضاً التحالف بغاراته، وقد استهدفها الطيران الأردني في اليوم الأول لبدء الغارات.
إذاً من غير المحسوم أن صفقة أخرجته من سجنه. موعد المحاكمة حُدد قبل أن يتشكل التحالف الدولي، وإعلان أبو قتادة أنه ضد «التحالف» يُضعف أيضاً هذا الاحتمال، واستهداف الطيران الحربي الأردني مواقع «النصرة» التي يدعمها يجعل احتمال الصفقة أكثر استبعاداً. وعلى رغم ذلك ثمة ما يجب البحث عنه. فتبرئة الرجل كانت متوقعة، بحسب محاميه ومقربين منه، لكن توقيتها يطرح تساؤلات.
يعيش اليوم في الأردن، وخارج السجن، أشهر وجهين لـ»السلفية الجهادية» في العالم، هما أبو محمد المقدسي وأبو قتادة، إماما السلفية الجهادية النجدية والمالكية. الأول أفرج عنه قبل نحو سنة بعدما أتم محكوميته، وفاضت إقامته في السجن عن المدة التي حُكمها. وهما خارج السجن في لحظة سياسية وعسكرية استثنائية في تاريخ المملكة. فإعلان الأردن رسمياً انخراطه في الحملة العسكرية الدولية على «داعش» جاء خروجاً عن تقليد دأبت عليه المملكة منذ حرب 1967 مروراً بحرب الخليج الأولى وصولاً إلى حرب الخليج الثانية. فهو اعتمد المشاركة الصامتة عبر فتح الحدود للجيوش المشاركة، والانكفاء إعلامياً، وتولي المفاوضات مع الحكومات المستهدفة.
لا شيء مرتجلاً في الأردن. «الدولة العميقة» تقيس الخطوات على نحو شديد الحساسية في مثل هذه الظروف الدقيقة. وثمة موديل أردني في مكافحة الإرهاب ثَبُتت نجاعته بالتجربة. فالمملكة حليف متقدم للولايات المتحدة الأميركية، وموقعها في المنطقة محسوم لجهة انحيازها للمعسكر المناهض لـ«القاعدة». والأردن في المقابل بيئة أنجبت لـ« القاعدة» أول رموزها وأكثرهم تأثيراً (عبدالله عزام)، وأكثرهم دموية (أبو مصعب الزرقاوي). وبالإضافة إلى مفتيَيْ «القاعدة»، أبو قتادة والمقدسي، هناك أبو أنس الشامي، المسؤول الشرعي لـ»القاعدة» في مرحلتها الزرقاوية والأكثر دموية في العراق. وعلى رغم ذلك، بقي الأردن أقل الدول تأثراً بزلزال «القاعدة» بالمعنى الأمني.
علينا أن نتذكر أن كل دول المنطقة على الإطلاق اهتزت على وقع عمليات «القاعدة». مصر وسورية والعراق، ولبنان يهتز هذه الأيام، وحتى تركيا لم تنج. أما الأردن فاقتصر استهدافها حتى الآن على «يوم الفنادق» في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005.
من المؤكد أنه لم يساور أي مسؤول أردني وهم بأن أبو قتادة وأبو محمد المقدسي سيكونان حليفي الحكومة في الحملة الدولية على «داعش». وهما أصلاً إذا ما رغبا بذلك فسيكونان حصانين خاسرين، ذاك أن أهميتهما للحكومة تكمن في أنهما رجلا «القاعدة» المؤثران، وهي تعمل على أن لا يكونا رجليها الخطيرين. وتُدرك السلطة في الأردن أن تأثير الرجلين كمفتيين لا يُمكن الحد منه عبر سجنهما، ذاك أن الفتاوى تخرج من السجون على نحو أشد تأثيراً وفتكاً. إذاً فإخراجهما من السجن سيكون أكثر حكمة، حيث تسهل مراقبتهما، وحيث تدخل في حساباتهما في سعيهما للإفتاء حقيقة أنهما خارج السجن وأنهما راغبان في البقاء خارجه.
والحال أن هذا النوع من العلاقة مع الجماعات «السلفية الجهادية» هو دأب الأردن منذ بدأ يواجه هذه الظاهرة. خليط من العلاقات الأمنية والأهلية والزبائنية، مع حدٍ أدنى من الاعتبارات القانونية، تمكن عبرها الأردن من الحد من خطر هذه الجماعات عليه. وهو إذ يُعلن اليوم مشاركته في التحالف الدولي على «داعش» يُعلن أيضاً تمسكه بما يعتقده لجهة أن الأردنيين ممن يؤيدون «داعش» أو «النصرة» سيكونون خارج الاستهداف داخل المملكة، لا بل سيستفيدون من فسحة استفاد منها أبو قتادة.
لا عداء مطلقاً في الأردن، ولا حرباً مطلقة. الجيش يُحارب «داعش» في سورية وفي العراق، والأجهزة الأمنية تساوم عناصرها في الداخل، ويمكن للقضاء أن يبرئ من لا تثبت إدانتهم ويمكن أن يؤجل الحكم سنوات. ثم أن نظرية أن الحرب ليست مطلقة تعني قدراً من البراغماتية القابلة للمساومة على كل شيء طالما أن المطلوب أمن المملكة. فأبو مصعب الزرقاوي غادر الأردن إلى أفغانستان عبر مطار عمان مباشرة بعد خروجه من السجن، وقُتل في العراق بعد أشهر قليلة من تفجيرات عمان.
أبو قتادة لم يخرج من السجن لكي يخوض حرباً على «داعش» متحالفاً مع الحكومة الأردنية. خرج لأن الدولة العـــميقـــة في الأردن تشعر أن في إمكانها تحمّله خارج السجن، وأنه سيكون مـراقباً في منزله الفقير في منطقة رأس العين في عمان، وسيكون شاهداً على سعة لم يسبق لـ«السلفية الجهادية» أن اختبرتها في سلطة تعيش في كنفها.
وفي هذه اللحظة سيشعر الطيار الأردني العائد من مهمة الإغارة على «داعش» أنه في مأمن من دعاوى أبو قتادة، ذاك أن المملكة قامت بـ«واجباتها» تجاهه، وأن الحرب ليست مُطلقة. |