لم تعد تفصل التونسيّين عن الانتخابات التشريعية المقرّرة في 26 تشرين الأوّل (أكتوبر) المقبل إلاّ بضعة أسابيع، تليها الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية في 23 تشرين الثاني (نوفمبر)، ثم الدورة الثانية قبل نهاية السنة الحالية، فما هي أبرز معالم هذه المنافسة السياسية وما هي الاحتمالات الممكنة؟
ستجرى الانتخابات التشريعية على نفس الطريقة الانتخابية التي اعتمدت في انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011، وهي طريقة النسبية مع تحويل البواقي للقوائم الأقرب للفوز وتنفيل الدوائر الانتخابية الأقلّ كثافة سكانية، وستتنافس أكثر من 1300 قائمة تضمّ أكثر من 15 ألف مترشح على 217 مقعداً في مجلس نوّاب الشعب. وينتظر أن تشهد الانتخابات ظاهرة تشتّت الأصوات وتعقّد العملية الانتخابية على المواطن العادي بسبب هذا العدد الضخم، مثلما حدث عام 2011 (العدد آنذاك كان في حدود 1600 قائمة).
وقد فشلت المعارضة في تكوين جبهة انتخابية موحّدة، بعد أن أعلنت في الماضي عن هــذه الجبهة وأطلقت عليها اسم «الاتحاد مـــن أجل تونس». بيد أنّ حركة «النهضة» بدورها فضلت دخول الانتخابات منفردة، وينتظر أن تكـــون المنافسة شديدة بينها وبين حركة «نداء تــونس» بزعامة الباجي قائد السبسي. لكنّ هذه المنـــافســة ليست إلاّ جزءاً من المشهد، إذ إنّ كثرة القوائم ستعقّد النتائج وتفتح إمكانات كثيرة للتحالف بعدها، ولا يستبعد أن تُحدث بعض القوائم باختراقات مهمة بسبب وجود شخصيات جهوية أو رجال أعمال بارزين على رأسها.
وإذا توجّهت غالبية الناخبين إلى الحزبين الرئيسين، فمن المستبعد أن يحصل أيّ منهما على الغالبية المطلقة، بما يفتح المجال لافتراضين: إما أن يتحالفا معاً في إطار حكومة وحدة وطنيّة، أو يتحالف المتحصل منهما على الغالبية النسبية مع عدد من الأحزاب الصغيرة القريبة منه. وثمة إمكانية أخرى مرجّحة حاليا وهي إعادة تكليف رئيس الوزراء الحالي بتشكيل حكومة تكنوقراطية جديدة، وهو حلّ قد تلجأ إليه «النهضة» كي لا تجد نفسها في وضع شبيه بما بعد 2011.
وباعتبار أعضاء الحكومة الحالية غير معنيّين بالانتخابات، فلا خوف على الاستقرار السياسي للبلد حتى لو تواصلت المشاورات لتشكيل الحكومة فترة طويلة، لكن طول الأجل سيطرح مشكلة أخرى: فالدستور يقضي بأن يتولّى رئيس الجمهورية تكليف مرشح الحزب الفائز بتشكيل الحكومة، والحال أن الرئيس الموقت الحالي تنتهي ولايته مع الانتخابات الرئاسية ولن يعرف خلفه على الأرجح قبل بداية السنة المقبلة. فالانتخابات الرئاسية ستجرى في دورتها الأولى بعد شهر تقريباً من التشريعية، وقد تقدّم لها 70 مرشحاً، جزء منهم من «الطفيليين» الذين ستسقط ترشحاتهم لعدم استيفائهم الشروط القانونية، وجزء حظوظه في الفوز شبه معدومة، وستنحصر المواجهة في أقلّ من عشرة مرشحين أبرزهم الرئيس الموقت الحالي منصف المرزوقي، وزعيم «نداء تونس» قائد السبسي، والمحافظ السابق للبنك المركزي مصطفى كمال النابلي، والمحامي أحمد نجيب الشابي.
أما «النهضة» فلم تقدّم رسمياً مرشحاً منها للرئاسة، وإن دفعت العديد من المقرّبين منها للترشح، وستعلن عن اختيارها بعد الإعلان عن نتائج التشريعية، بما سيجعل منصب الرئاسة جزءاً من صفقة التحالفات التي ستعقد بعد التشريعية، لا سيما أنه من المستبعد جدّاً الحسم منذ الدورة الأولى. كما يستبعد أن تحدث اختـــراقات ذات بـــال مــن رجال الأعمال المرشحين للرئــاسة، أو مـــن المرشحين المنتمين سابقاً إلى حـــزب «التجمع» المنحلّ، بما يمكّن أحد هؤلاء أو أولئك من بلوغ الدورة الثانية من الانتخابات.
ويصحّ على المعارضة التونسية المثل الفرنسي القائل «لقد باعوا جلد الدبّ قبل قتله»، إذ إن ثقتها المفرطة قبل سنة بأنّ حركة «النهضة» قد ضمرت وانهارت جعل قادتها يستعيدون نفس التصرفات والخصومات التي قادتهم إلى الهزيمة في 2011. ومع أن «النهضة» فقدت قطعاً، بسبب تجربة الحكم، جزءاً من قاعدتها الشعبية، فإنها تظلّ الأقدر على الاستفادة من تشتّت الأصوات، كما ظلّت متماسكة ومنضبطة وقادرة على المناورة واتخاذ القرارات بسرعة.
هكذا تظلّ كلّ الاحتمالات واردة في هذه الانتخابات، ومنها طبعاً عودة «النهضة» إلى السلطة مجدّداً، ولكنْ بسلوك أكثر تواضعاً وواقعية هذه المرّة، بسبب ضغط الأوضاع الداخلية والخارجية من جهة، وخيبة التجربة السابقة من جهة أخرى.
ومن الرهانات الأخرى للانتخابات المقبلة معرفة نسبة التصويت، وقد كانت في حدود الخمسين بالمئة المرة السابقة، وأرجّح أن تكون أدنى من هذه النسبة هذه المرّة، لاقتناع العديد من التونسيين بأنّ هذه المواعيد السياسية لا تغيّر الكثير في حياتهم اليومية، إضافة إلى تعقّد العملية الانتخابية ذاتها.
مع ذلك، لا بدّ من تأكيد أهمية التجربة التونسية التي نجحت في تنظيم انتخابات نزيهة لتعيين أعضاء المجلس التأسيسي، ثم تدوين دستور جديد وفاقي وحديث، ثم تنظيم أوّل انتخابات حرّة، تشريعية ورئاسية، في انتظار الخروج من المرحلة الانتقالية والدخول بصفة دائمة في عهد الجمهورية الثانية. بيد أنّ الحكومة القادمة، أيّاً كان القائمون عليها، ستواجه مشاكل بالغة التعقيد، في الأمن والاقتصاد والحياة الاجتماعية العامة، لن تكون قابلة للحلّ بالشعارات الثورية والمعارك الأيديولوجية. فمن الضروري أن تكون قادرة على توفير مقدار من الاستقرار للقيام بالإصلاحات الضرورية التي ستتمثل حتماً في قرارات غير شعبية، مثل تقليص الدعم ورفع الأسعار وخصخصة بعض المؤسسات والقطاعات وإيقاف مسلسل المطلبيات المتواصل منذ الثورة.
فنخوة الفوز بالانتخابات لن تتواصل طويلاً بالنظر إلى التحديات الضخمة التي ستبرز بعدها، لا سيما في سياق إقليمي ما فتئ يتعقّد بسبب الحروب الأهلية وانتشار الإرهاب، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية في أوروبا، وهي الشريك الاقتصادي الأوّل لتونس. |