التاريخ: أيلول ٢٨, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
إحياء الفكر الوطني والقومي مقدمة لتجاوز الانقسامات - كرم الحلو
من يقرأ التاريخ العربي الحديث تذهله التضحيات الكبرى التي أبداها العرب في دفاعهم عن قضاياهم الوطنية والقومية والاجتماعية. ففي الثمانينات استطاعت الثورة المهدية في السودان، وبتسليح بدائي، ان تهزم جيوش الامبراطورية البريطانية وان تحتل الخرطوم، وقدمت الثورة العرابية في الآونة نفسها صورة مشرقة من صور الكفاح السياسي والوطني. وعرف لبنان ابان القرن التاسع عشر عاميات شعبية استبسل مناضلوها حتى الاستشهاد في مقاومة الاقطاع السياسي الجائر. وكذلك كان القرن العشرون ميداناً لحركات جهادية شعبية قدم فيها العرب ملايين الشهداء في فلسطين والعراق ومصر ولبنان والجزائر واليمن والسودان.

ولم يبخل القرن الحادي والعشرون بالتضحية والجهاد، فقد واجه اللبنانيون بشجاعة واستبسال الغزو الاسرائيلي عام 2006. ونزل ملايين العرب منذ 2010 في مصر واليمن وسورية وليبيا يتحدون بصدورهم العارية دولاً تسلطية عاتية في استبدادها وعدائها لشعوبها.

الا ان هذه الحركات الثورية المجيدة ما لبثت ان انكفأت الى اقتتال اهلي انجب الويل والمآسي واجهض الامل بمستقبل عربي قوامه العدل السياسي والاجتماعي وحقوق الانسان. فصمود شعب لبنان عام 2006 اعقبه اقتتال عام 2007 الطائفي، وكفاح شباب مصر انتهى الى حكم مرسي وخطابه الاحادي ما اقتضى للاطاحة به انتفاضة مليونية جديدة، وثورة ليبيا ضد طغيان القذافي تحولت الى حرب الكل على الكل، وانتفاضة اليمن باتت حرباً قبلية مذهبية، ونضال الشعب السوري من اجل العدالة والديموقراطية وتداول السلطة واحترام الحد الادنى من حقوق الانسان آل الى النصرة وداعش، اشد التنظيمات عداء للديموقراطية وقيم العدل والتسامح والاعتراف بالآخر.

لقد اثبت التاريخ ان الامم كالافراد تنحدر الى همومها الصغيرة ونزاعاتها الضيقة وغرائزها المفسدة القاتلة حالما تفرغ من قضاياها الكبرى ومثلها الايديولوجية الملهمة التي تدفع بها الى تجشم الاخطار واحتمال القهر والعذاب والآلام لتحقق ما يبدو وكأنه معجزات. وليس من مثل او قضايا اكثر اثارة لاتحاد الامة وائتلافها في كل موحد متراص، الا تلك المتعدية للانقسامات العصبوية، المذهبية والطائفية والاثنية، والجامعة للكل في بوتقة واحدة يعبر عنها «الوطن» او «الامة».

ادرك مفكرونا النهضويون هذه الحقيقة فأشار رائد التنوير العربي الشيخ رفاعة الطهطاوي الى حديث «حب الوطن من الايمان»، ورأى ان الوطنية رابطة اساسية ودافعاً للتضحية، وان الاخوة الوطنية موازية للاخوة الدينية، وجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على اعضاء الوطن من حقوق، بصرف النظر عن معتقدهم الديني.

وبعد الطهطاوي بشر بطرس البستاني بحب الوطن، وذكر ابناء الوطن انه يجمعهم وطن واحد ولغة واحدة وعوائد ومصالح مشتركة، واعتبر محمد عبده «ان خير اوجه الوحدة الوطن، لامتناع الخلاف والنزاع فيه»، وقال عبد الله النديم «نحن ابناء مصر لا نفرق بين تركي وعربي وجركسي فكلنا ابناء البلاد»، وجعل اديب اسحق الولاء للوطن فوق كل ولاء. وهكذا بدت فكرة الوطن والوطنية الاساس لتخطي التمزق العصبوي وبخاصة الطائفي، لأن التمسك بالعصبة الدينية، في رأي سليم البستاني، في بلاد متعددة الاديان هو الضعف والانقسام بعينه، ولهذا من الافضل لنا ان ننتمي الى عصبة واحدة هي العصبة الوطنية لسهولة تحقيق هذه الجامعة بيننا، ولا نجاح الا بالعصبة الوطنية العربية، فقد استطاع بسمارك ان يوحد المانيا، وغاريبالدي ان يوحد ايطاليا باعتماد مقومات الوحدة الوطنية، ونحن العرب تتوفر لنا جميع هذه المقومات فلماذا لا نتحد؟

اما اهم اسباب الاتحاد فيتمثل في رأي بطرس البستاني في نبذ التعصب ذلك المبدأ الخبيث الذي يأخذ اشكالاً مختلفة عبر التاريخ، ويعمي القلوب والابصار، فمن صالحنا تبديل «حب الذات المفرط» بحب الوطن والاتحاد، والنظر الى اصحاب المذاهب والاديان بعين الاعتبار والمحبة، وانهم عائلة واحدة «ابوها الوطن وامها الارض» وبقية الاعضاء متساوون في المصير والآمال.

ان اهالي سورية، كما يقول البستاني، لم يصلوا الى هذه الدرجة من التأخر الا بسبب التعصب وعدم الاتحاد وعدم الغيرة الوطنية والانقسام الطائفي الذي يقيم اسواراً يسن عناصر الامة. فلماذا لا تجتمع طوائفنا امة واحدة، طالما ان الانقسام والتناحر جرا على الشرق النكبات والهزائم، وقد اقاما اسواراً بين عناصر الامة، ولماذا لا ندع كل فرد ودينه، بتعبير فرح انطون، فنحن وان اختلفنا ديناً ابناء وطن واحد، وكما للدين علينا حق، للوطن علينا حق.

ان انحراف الامة عن هذه المثل الوطنية والقومية التي رفعها النهضويون، وانحدارها الى خطابات عصبوية، طائفية او مذهبية او اثنية، هو الذي اربك ويربك الآن انتفاضات الربيع العربي التي لو تمسكت بمقولة محمد عبده «خير اوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه» كان يمكن ان تقود الشعوب العربية فعلاً الى ربيع الحرية والتقدم وحقوق الانسان بدل ان تدفع بها في جحيم النزاعات الطائفية القاتلة والقائها في احضان الاصوليات التكفيرية التي تهدد تاريخنا وحضارتنا العربية والاسلامية في الصميم.