أخطأت بتقديري ضعفَ احتمال قيام التحالف الأميركي ضرب مواقع «داعش» في سورية، وكذلك لم يكن لدي أدنى تقدير بأن تكون هذه الضربات بهذه السرعة وبهذه القوة. ظننت أن واشنطن ستحاول الضغط على موسكو سياسياً بحجة أنها تعوقها بضرب «داعش» في سورية.
الآن وقعت الضربة وبشكل قوي وسريع، وبمشاركة عربية واسعة صباح يوم 22 من هذا الشهر. ارتبكت موسكو وكذلك طهران أمام هذه الضربة التي جاءت بعد يوم من انتشار خبر أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ينوي تشكيل تحالف موازٍ لمواجهة «داعش». فواشنطن لم تطلب موافقة موسكو، ولا موافقة طهران طبعاً، ولم تخطرهما بموعد الضربة ولا بحجمها.
المرتبك الأكبر كان النظام السوري. فواشنطن لم تطلب موافقته، وتؤكد أنها لم تنسق معه. فكان أن لجأ مسؤولوه كعادتهم إلى الكذب والمداورة في الكلام، مدّعين أنه تم التنسيق معهم ليحفظوا ماء وجه نظامهم تجاه تجاهله المطلق من جانب التحالف، وتجاه ما يدّعيه من الحفاظ على السيادة الوطنية. فما قاله هؤلاء المسؤولون لا يتعدى ما أعلنته واشنطن مراراً بأنها ستضرب مواقع «داعش» في سورية، معتمدة على حجة أنها تقوم بذلك دفاعاً عن أخطار «داعش» المباشرة عليها. لكن ربما تكون حذرتهم لحظة بدء الهجمات من التعرض للطائرات العربية المشاركة ومن خروج طائراتهم وقت الهجمات. فما كان من النظام إلا القبول صاغراً بهذه الهجمات، التي شاركت فيها دول عربية لطالما اعتبرها، مع الولايات المتحدة، تشن حرباً «كونية» عليه من خلال دعمها لمجموعات مسلحة يصفها بالإرهابية.
إفلاس النظام السوري وعجزه عن أن يكون له أي دور سوى قمع مواطنيه، وعدم أهمية ادعاءاته وتصريحاته، وعدم مقدرته على السيطرة على أجوائه وأراضيه... باتت من نافل القول. لكن الجديد الآن هو العجز الروسي أمام هذا التقدم الأميركي المريع. فمع تنفيذ هذه الهجمات، بدأ الكسب الأميركي على روسيا الطامحة لتبوّء قطب عالمي في مواجهة الولايات المتحدة. فقد تمكنت واشنطن هذه المرة بجسدها ورفقة حلفائها من أن تدخل الأجواء السورية وتتصرف على الأرض السورية كما تشاء، من دون أن يتاح المجال لموسكو كي تعترضها أو تعوقها، كما حادثة السلاح الكيماوي صيف 2013.
روسيا لم تتمكن من مجاراة النظام بموقفه الراضي بالضربات (بادّعاء أن واشنطن أخطرته بها)، بل أبدت اعتراضاً عليها لعدم حصول المهاجمين على موافقة دمشق المسبقة. فروسيا شعرت بوضوح بألم الكسب الأميركي عليها. وكذلك حال إيران التي شعرت بأن هذه الهجمات بداية خسارتها الساحة السورية. والنظام لم يتمكن من مجاراة روسيا أو إيران بموقفهما، ولم يستشرهما ربما بموقفه، لأن أدنى اعتراض له سيظهره أمام مواليه وجنوده أنه مهزوم، مما يؤدي إلى خسارته الكثير من الموالين، أو ربما انقلابهم عليه.
لدى واشنطن الآن مظلة أممية وفق القرار 2170 الذي نال موافقة جميع أعضاء مجلس الأمن بمن فيهم روسيا والصين، ولديها تحالف دولي يضم جميع الدول العربية في المشرق العربي، من دون سورية، ولديها إعدام الصحافي الأميركي جيمس فولي من جانب «داعش». هذا كله يتيح لها أن تتصرف وفق هواها على الأراضي السورية، بحجة الدفاع عن نفسها ومصالحها المباشرة، مصطحبة معها شركاء من غالبية الدول السنّية في المشرق العربي (السعودية وقطر والبحرين والإمارات العربية والأردن) لتضمن الإقلال من غضب السنّة بسبب استهدافها تنظيماً إسلامياً.
أمام هـــذه الهجمات الأمـــيركية، المبكّرة والشـــديدة والواسعة، أصبح السيناريو الأكثر رجحاناً أن واشنطن ستتابع العمل بمثل هذه الهجمات، مع احتفاظها بكامل الحق في تحديد المواقع السورية التي تشاء اعتبارها مواقع لـ «داعش»، والاحتفاظ بحقها المطلق، عسكرياً، أن تحدد أو تعيّن من يمكن أن يحل في أمكنة الفراغ التي ستحققها على حساب «داعش».
بهذا، تتضح ملامح سيناريو باتت له الأرجحية. فواشنطن قادرة الآن، أمام عجز النظام والعجز الروسي، على أن تحدد مناطق عملياتها وتمنع قوات النظام من الاقتراب منها. وبذلك يكون في مقدورها «إنزال» من تشاء من مجموعات مسلحة تكون تحت سيطرتها المباشرة، وليس عبر وسيط عربي. فتشكل بذلك مناطق محظورة على النظام من دون أن تسمّيها بهذا المسمى. هذه المجموعات التي ستزرعها واشنطن في مناطق متعددة من الأراضي السورية ستكون تحت إدارة قادة أو مدرِّبين يتبعون مباشرة لها، ما يجعلها مسيطرة برياً، وليس جوياً فقط، على هذه المناطق من دون أن تُدخل قواتها البرية.
ومع ذلك، لن يكون في مقدور واشنطن السيطرة البرية الغالبة باستخدام مجموعات المعارضة «المعتدلة» التي ستعتمدها، إذ ليس لديها ما يكفي من المقاتلين لتمكينهم من مناطق واسعة، حتى لو أمّنت لهم الحماية. لكن أغلب الظن أنها ستدفع بالأمور، لاحقاً، لاستئناف مفاوضات تضمن فيها نصراً مُرضياً، وتعتمد هذه المجموعات كعماد رئيسي للطرف المفاوض للنظام. وسيكون قادة هذه المجموعات، الموالون بالمطلق لواشنطن، هم مرشحوها للمشاركة في السلطة.
خشية كبيرة ألا يكون لدى واشنطن الحذر الشديد في مسارها الجديد هذا. إذ تغريها حكاية الفوز هذه، فتتمادى بها إلى درجة قد تؤدي إلى انهيار النظام السوري، وتحوّل قواته إلى مجموعة من الإمارات الحربية التي لا تحتاج إلى قرار مركزي أو سلطة مركزية، ما يعني انهيار ما بقي من الدولة السورية ومؤسساتها التي تدّعي واشنطن، وحلفاؤها الغربيون، أنها حريصة على عدم حدوث مثل هذا الانهيار. فقد يكون تصور واشنطن لقوة النظام وتماسكه، والتصاق مواليه به أكبر من الواقع، فالنظام بلغ من الهشاشة حد الانهيار.
ويبقى أن لا إمكانية للقضاء على «داعش» في سورية سريعاً. وربما واشنطن ليست مستعجلة في هذا الأمر. فـ «داعش» ستُهزم في مواقع وتتوسع في مناطق أخرى، وهذا محكوم بعض الشيء، أو الى حد كبير، بالضربات الأميركية. أي أن واشنطن ستدفع بـ «داعش» إلى المناطق التي تريد هي السيطرة عليها.
الضربات المقبلة ستظهر لنا الصورة أكثر وضوحاً، وستتضح أكثر بنود السيناريو الأميركي وفقراته. لكن كيفما كان الأمر سنكون نحن السوريون مجرد متفرجين منزوعي الإرادة والقرار، ننظر إلى بلدنا ينهار أمام أعيننا، أراضيه مستباحة وسيادتنا عليه منتهكة. ننتظر قادم الأيام بآمال المؤمنين بلطف الأقدار، وليس وفق ما يريده الرجال (ذكوراً وإناثاً).
* رئيس تيار بناء الدولة السورية.
|