التاريخ: أيلول ٢١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
الثورة التونسية من الاعتزاز إلى التبرؤ؟ - حسن منيمنة
«كانت ثمة قيود في العهد السابق، التعبير السياسي كان محدوداً بالطبع، بل والممارسة الدينية كانت خاضعة للتضييق، غير أننا كنا نعيش في حالة انضباط وكان لدينا الاطمئنان إلى أن مسار حياتنا اليومية منتظم. أما اليوم، فهيبة الدولة قد ضاعت، والاقتصاد مهدد، والانفلات الأمني يدعو لفائق القلق، ولم نجنِ من وعود التغيير سوى الندم والحسرة».

قد يكون مفهوماً أن يصدر هذا الكلام في ليبيا وسورية واليمن والعراق، غير أنه كذلك لسان حال العديدين في تونس، والتي يرى فيها من توسم الخير في «الربيع العربي» آخر معقل لقصة نجاح في التحولات التي شهدتها المنطقة، ولا سيما مع اقتراب سلسلة مهمة من الانتخابات التشريعية والرئاسية، والتي من شأنها أن تثبّت وتطوّر خطوات المرحلة الانتقالية.

ظاهرة الحنين إلى ما اندثر هي طبعاً حالة ثابتة في الفكر الإنساني (وهي التي اعترض عليها بديع الزمان الهمذاني بقوله: «الشيخ يقول فسد الزمان أفلا يقول متى كان صالحاً»)، غير أن تصاعدها في هذه المرحلة في تونس يندرج بوضوح في إطار التنافس السياسي بين قراءتين للثورة التونسية يمكن أن يبنى على كل منهما لتحديد الخيارات السياسية في المرحلة التالية.

القراءة الأولى تجاهر باعتبار الثورة حراكاً تصحيحياً محموداً ابتدأ وإن لم يصل إلى حد الاكتمال، والأخرى ترى فيها، وإن همساً، خطأً المطلوب اليوم العمل على معالجة مخلفاته. والاصطفاف حول تقييم الثورة يبرز بالتالي كعامل منافس للشأنين الآخرين اللذين يؤطران الهم السياسي في تونس، أي ضبط العلاقة بين الدين والسياسة، ومكافحة الإرهاب، وإن كان التداخل بين هذه العوامل الثلاثة يلّون الاصطفاف في تقييم الثورة، ليتشكل جانب الطعن بها من مجموعة غير متوقعة من المنتسبين إلى النظام السابق واليساريين وأرباب الأعمال.

وفي حين أن القراءة الأولى المعتزة بالثورة تبقى سائدة في الإعلام والثقافة نتيجة الزخم العاطفي والخطابي الذي رافق الأحداث الخطيرة قبل أكثر من ثلاث سنوات، والتي أدت إلى نهاية عهد كان يقترب في ديمومته من ربع القرن، فإن الواقع اليوم هو أن القراءة الثانية الداعية ضمناً إلى طي صفحة الثورة واعتبارها خطأ مطلوب تجاوزه هي الأكثر تجانساً في الطرح والتصور، ليس لتفوقها وقائعياً وفي المبادئ، بل للتخبط الذي يعاني منه خطاب الثورة.

والمسألة هنا ليست في تحليل الأسباب الجوهرية والعرضية التي تسببت بالثورة أو التي مكّنت حصولها، بقدر ما هو تقييم مدى إظهار هذه الأسباب في المتداول الثقافي والاعتماد عليها في صياغة الحلول الممكنة وإدارة التوقعات العامة. فالتقييم الفعلي لمدى أزمة النظام السابق، أو عمق إضراره بالبنى الاجتماعية والاقتصادية في تونس من خلال القمع والفساد، مسألة تتطلب مسافة ومعطيات قد لا تكون قائمة في الوقت الراهن. إلا أن الانطلاق من المتوافر للمقارنة بين تصورين لطبيعة النظام السابق في علاقته بالمجتمع التونسي، بما يمنع انحدار الحنين إلى مستوى التلميع، كان أمراً ممكناً، غير أنه لم يتحقق.

وغاية المقصود في هذا الشأن هو مسألة أبوية الدولة. فالنظام السابق في تونس، حاله حال كافة الأنظمة في الدول العربية، كان قائماً على منطق أبوية الدولة، والذي يسمح له بالمطالبة بولاء وطاعة وخضوع من المواطن الرعية، مقابل الوعد برعاية هي أقرب إلى وصاية القاصر، في توفير الطبابة والتعليم والوظيفة والتقاعد ودعم السلع الاستهلاكية. وإذا كان النظام قد تمرّس في تحقيق ما له، فإنه في تقديم ما عليه تخلّف وتراجع، متخلياً عن المضمون حيث اقتضى عليه الاحتفاظ بالشكل، وممعناً في استرضاء الجهاز الإداري والقمعي، الأصيل والرديف، لضمان ضبط ردود الفعل على تراجع مكارمه.

فالمسألة التي واجهها الشباب بخاصة وكامل المجتمع التونسي عامة هي أن الوعود لم تتحقق. فهل كانت الثورة مطالبة بتحقيق هذه الوعود، من خلال ردع الفساد وترشيد الحوكمة، أو إدراك بأنها وعود كاذبة أساساً لا سبيل إلى تحقيقها؟ هنا موضع التخبط في خطاب الاعتزاز بالثورة، والذي ابتدأ في بعض أوجهه بالكلام الواقعي الذي يدرج الحالة التونسية في سياق التطورات الطويلة الأمد التي تفاقم صعوبات تحقيق الوعود، لا سيما منها التزايد السكاني بما يتجاوز الموارد الطبيعية والنمو الاقتصادي من جهة، وتحسن العناية الطبية بما يطيل المسؤولية المالية للمجتمع عن الشرائح العمرية المتقدمة، وصولاً إلى أعباء الاستدانة من المستقبل والتي شكلتها السياسات الاشتراكية وما شابهها في المراحل الماضية، إضافة طبعاً إلى الحديث عن النطاق العالمي الذي شهد أزمة اقتصادية غير مسبوقة قبل عامين من الثورة، انتفت معها إلى درجة كبيرة إمكانات استدعاء الدعم العالمي بما يطيل عمر المعادلة الأبوية.

والواقع أن إدراك انقضاء الدولة الأبوية كان حاضراً في الوسط الثقافي، سواء في شقه الممتعض من الثورة أو المحبذ لها. إلا أن ما يصاحب الإقرار بهذا الانقضاء من إحباط لا ينسجم مع الحاجة السياسية إلى تعبئة قائمة على الأمل. فلم يجد الخطاب التفسيري للثورة التونسية كانتفاضة ناتجة من النفاد المقنّع للدولة الأبوية الكثير من الدعم السياسي، متيحاً المجال أمام بديلين يتجاوزانه، الأول يجعل الثورة محاولة للقضاء على فساد النظام السابق مع الوعد تلميحاً وتصريحاً بالعودة إلى منطق الرعاية والوصاية، والآخر يدين الثورة بوصفها سبباً وليس نتيجة لترنح الدولة الأبوية وخسارة الاستقرار والازدهار وكل طيبات الحنين الزائف.

مشكلة الأطراف السياسية المحبذة للثورة هي أنها في اعتناقها البديل الأول لتوصيف التحول، عجزت في المرحلة الانتقالية عن الإنجاز المقنع، فبدت بالتالي، حتى وفق خطابها هي، وكأنها نسخة أقل جودة عن النظام الذي سعت إلى استبداله، ومكّنت خصومها من إشهار البديل الثاني، أي الكلام عن الثورة كإنهاك لإنجازات العهد الماضي.

إدراك استحالة العودة إلى الوعود الزائفة حاصل في أوساط مجتمعية تونسية واسعة، فالناقص هو شجاعة سياسية تشهر هذا الإدراك، ولا تساهم في إسقاط الإنجاز الثوري الفعلي الذي شهدته تونس في رفضها لسلطوية متحققة بحجة أبوية متآكلة.