للمرة الثانية تتولى الولايات المتحدة عملية تشكيل تحالف عسكري يهدف الى إزالة حكم تعتبره الأسرة الدولية خطراً على السلم العالمي. ففي سنة 1990 تشكلت قوات التحالف من 32 دولة بقيادة واشنطن من أجل تحرير الكويت من الغزو العراقي.
لم يجد الرئيس جورج بوش الأب صعوبة في تشكيل ذلك التحالف لأسباب فرضتها المتغيرات الاقليمية والدولية خلال تلك المرحلة. ذلك أن منظومة الدول الاشتراكية، التي شاركت في إدارة النظام العالمي مدة سبعين سنة، كانت تتصدع وتتفكك الى وحدات إنفصالية مستقلة في عهد زعيم موسكو الجديد ميخائيل غورباتشيوف.
واليوم تتكرر تلك التجربة بمشاركة 28 دولة إجتمع ممثلوها في باريس تحت شعار إزالة إرهاب "داعش" من العراق وسوريا وسائر الدول الأخرى.
ويُستَدَل من المؤشرات السياسية التي حملتها جولات وزير الخارجية الاميركي جون كيري، الى بغداد والقاهرة وأنقرة وباريس، أن التحالف الجديد يواجه عراقيل مختلفة تمنعه من تحقيق أهدافه بالسرعة المطلوبة.
والثابت أن عملية تضخيم عدد الدول المشتركة في التحالف كانت تتعلق بأهمية موافقة الكونغرس عى خمسمئة مليون دولار من أجل تدريب وتسليح الجيش السوري الحر. وهو الجيش الذي يقوده عمار الواوي، والذي تدعمه واشنطن في مواجهة جيش الرئيس بشار الأسد.
وعلى الرغم من الدعم السياسي للفريق المعارض، إلا أن الادارة الاميركية إمتنعت عن تزويد "الجيش الحر" بأسلحة مضادة للطائرات والدبابات. وبررت إعتراضها باحتمال وقوع هذه الأسلحة النوعية في أيدي رجال النظام. لذلك قامت الطائرات الحربية الاميركية لأول مرة بشن هجمات جوية داخل سوريا. وعلى الفور إستنكرت دمشق هذه العملية، مُذكِّرة بالحظر الذي أعلنه وزير الخارجية وليد المعلم، والتحذير من خرق سيادة الدولة.
يقول المراقبون إن الغاية من ضرب معاقل "داعش" داخل الأراضي السورية، من قبل سلاح الجو الاميركي، تشكل إختباراً للنظام الذي تراجع عن تلك المواقع. كما تشكل بالتالي إختباراً لنية اوباما حيال نظام يعتبره فاقد الشرعية.
وإستغرب الحاضرون في إجتماع باريس كيف أقحم الوزير كيري دور ايران في موضوع خارج نطاق القمة الدولية. قال إن بلاده رفضت دعوة طهران بسبب علاقتها الوثيقة مع النظام السوري.
وقد قوبلت هذه العبارة بحملة معادية من قبل الأجهزة الايرانية، إفتتحها المرشد الأعلى علي خامنئي فور مغادرته المستشفى. قال إن بلاده هي التي رفضت الانضمام الى التحالف الدولي ضد "داعش".
ويُستَدَل من مراجعة الخلفيات السياسية لهذا الخلاف، أن ايران لم تدعَ الى إجتماع دول الخليج كونها إشترطت دعوة الرئيس بشار الأسد بصفته يمثل القوة القادرة على مقاتلة "داعش".
وتميل الصحف الاميركية الى إتهام ايران بأنها تلعب دورين مختلفين بشأن مسألة "داعش"، وضرورة إبعاد مشروعه القاضي باحتلال ثلث مساحة العراق.
فهي من جهة تدعم البيشمركة بالسلاح والتنظيم ومن جهة ثانية تدعم وحدة العراق وتمنع إنفصال كردستان عن بغداد. ومثل هذا التناقض يفسر عدم إنضمام ايران الى دول التحالف.
كذلك يرى المحللون أن التجاوزات والمجازر التي إرتكبها نوري المالكي بحق المواطنين السنّة، ساهمت بشكل فعلي في قيام دولة للسنّة بقيادة أبو بكر البغدادي.
وبدلاً من إبعاد المالكي عن الحكم نهائياً، فقد كوفىء بانتقائه نائباً للرئيس، الأمر الذي يؤكد هيمنة طهران على مقاليد الحكم في العهد العراقي الجديد. علماً أن الرئيس فؤاد معصوم إعترض على إتهامه بالتبعية لايران. ولكن الشكوك لا تلعب لمصلحته بدليل أن رئيس "حزب الدعوة" الذي أسسته طهران لمقاومة صدام حسين، أي الدكتور ابرهيم الجعفري، يشغل حالياً منصب وزير الخارجية. أما نائبه السابق في الحزب نوري المالكي، فهو الذي يمارس ضغوطه النيابية لمنع تعيين وزيري الداخلية والدفاع إلا بما ينسجم مع مشيئة ايران.
ولكن هذه التعيينات لن تُسكِت البارزاني عن المطالب الأخرى التي عرضها للحل خلال ثلاثة أشهر. وبينها موضوع إعادة الدّين الى أربيل البالغ ثمانية مليارات دولار، ثم الموافقة على أن يكون بوسع الأكراد تصدير النفط الذي يُستخرَج من أراضيهم.
الحكومة العراقية تعمل حالياً على دمج المواطنين السنّة في الهامش السياسي الوسيع بغرض تجنيدهم في الصراع ضد "داعش". ولكن قائد محافظة الأنبار إدّعى بأن الميليشيات السنية لا تملك الأسلحة المناسبة لمواجهة قوات الغزاة.
وكل ما يطمح الى تحقيقه أفراد هذه المليشيات هو الحصول على ضمانات رسمية من الحكومة، أولاً... ومن الأسرة الدولية، ثانياً. وبسبب الظلم الذي تعرضوا له في عهد المالكي، فهم يطالبون بضمهم الى التحالف إذا كانوا سيخوضون المعارك البرية ضد محاربي "الدولة الاسلامية".
والمضحك في الأمر، أن قوات التحالف قد أعربت عن إستعدادها لمحاربة "داعش" من الجو، في حين إعتمدت في المعارك البرية على الجيش العراقي غير الموجود. أي الجيش الذي تناثرت عناصره بعد إحتلال الموصل.
تقول دراسات الخبراء إن تنظيم "داعش" هو نتاج حدثين إجتازتهما المنطقة خلال العقد المنصرم:
أولاً، السياسة الاميركية الخرقاء التي بدأت باحتلال العراق سنة 2003 في عهد جورج بوش، ثم إستمرت بالانسحاب في عهد باراك اوباما. ثانياً، الهزة السياسية - الاجتماعية - الدينية التي ضربت العالم العربي منذ سنة 2011.
وكنتيجة لهذين الحدثين، إنهارت أنظمة عربية عدة، في حين دخلت أنظمة مهترئة في نفق الفوضى والتغيير.
من حصيلة تلك الارتجاجات السياسية وُلِد تنظيم "داعش" الذي إستقطب الجهات المغتربة والمضطربة في العالم العربي. كما إستقطب نحواً من خمسة آلاف مجند تقاطروا اليه من اوروبا وآسيا واميركا الجنوبية. وقد تعرضوا لعمليات غسل أدمغة بايديولوجيات متطرفة باتت الأنظمة التي خرجوا منها تخشى عودتهم وتأثيرهم على أمنها ومجتمعاتها.
وعليه، فان النقطة المركزية في كل هذه الوقائع تشير الى حقيقة مرة مفادها أن الأنظمة الفاسدة، المهترئة، والضعيفة، ستبقى المولد الأساسي للاضطرابات الاجتماعية والدينية... وخزاناً ضخماً لتفريغ منظمات الارهاب وعصابات السوء والشر.
بقي السؤال الأخير الذي تطرحه دول التحالف حول طبيعة النهاية المتوقعة بعد ثلاث سنوات، كما قال الرئيس اوباما... أو بعد حرب العشر سنوات، مثلما توقع الوزير السعودي الأمير سعود الفيصل.
الاستعجال في تسليح الجيش اللبناني ودعم الجيش الأردني، ينم عن مخاوف خارجية تتعلق باحتمال إنهيار تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، وإضطراره الى التمدد في اتجاه لبنان عبر طرابلس... وفي اتجاه الأردن عبر مدينة معان. خصوصاً أن التحصينات المسلحة ستحول دون تسلله الى الجهات الأخرى في تركيا والسعودية وايران وكردستان!!
كاتب وصحافي لبناني |