التاريخ: أيلول ٢١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
هل يمكن استخدام العلوم الاجتماعية في الاصلاح الديني؟ - ساري حنفي
في ما يلي جزء من مقابلة أخيرة مع الدكتور ساري حنفي الذي انتخب في تموز الماضي نائباً لرئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع (ISA) في المؤتمر العالمي لعلم الاجتماع الذي عُقد في يوكوهاما (اليابان)، وهو أول عربي يصل الى هذا المنصب.

¶ ماهي وضعية العلوم الاجتماعية في العالم العربي؟
- هناك إشكاليات بين ميراث العلوم الاجتماعية الغربية والمجتمعات العربية المحلّية، بسبب تزامن دخوله مع بدء الوجود الاستعماري في المنطقة العربية. والمثال الفاقع هو كتب المستشرقين مثل Description de l'Egypte الذي يضمّ خمسة مجلدات ترجع إلى القرن التاسع عشر والذي قام بتأليفه مجموعة من الأكاديميين الذين رافقوا جيش نابليون الغازي. وفي أواخر حقبة الاستعمار وغداة استقلال الدول العربية، برز اتجاهان رئيسان لعلم الاجتماع، شجب أولهما العلوم الاستعمارية ونزع صبغة الاستعمار عنها، وعاين الثاني التبعية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي برزت بعد الاستقلال. كانت الإشارة إلى ابن خلدون ممراً لا بدّ منه للتفكير في "خصوصية" العالم العربي و"تمايزه". وتحت تأثير فانز فانون وتيرز-مونديستس، انشغل كثير من علماء الاجتماع آنذاك (أنور عبد الملك والطيب تيزيني وعبد الكريم الخطابي وغيرهم) ببراديغم هويّة العلوم الاجتماعية إلى أن أضناهم البحث أحياناً، ولذلك لم يُنتجوا بحوثاً ربما تُبيّن لنا كيفية إحداث شرخ بينها وبين "البحوث الاستعمارية".

كما انشغل أنصار الاتجاه الثاني، وهم الحداثيون، بتحديث المشروع الوطني واعتمدوا غالباً نموذجاً حداثياً أغفل في الغالب دراسة جهات اجتماعية فاعلة تقف خلف المشاريع التطويرية.
في سبعينات القرن الماضي بدأت تتشكل مجموعات مشرذمة من الباحثين في العلوم الاجتماعية في العالم العربي. من الناحية السياسية، كانت هذه المجموعات تتفاهم وتستوحي من براديغمات ومنهجيات العلوم الاجتماعية الفرنسية وإلى حد أقل بكثير مع العلوم الاجتماعية الأميركية. شاركت هذه المجموعات في خدمة عملية سياسية، وتحديداً تصميم مجتمع جديد. القضية الأساسية في نظر الباحثين الاجتماعيين بعد الاستقلال هي كيفية خدمة الدولة أو الأمّة أو المشروع الحديث الذي تنفّذه الدولة، وهذا يسري على جميع المجتمعات بعد حقبة الاستعمار أيضاً.

¶ كيف تبرر ضعف العلوم الاجتماعية في العالم العربي؟
- لقد استغلت النخبة المستبدة، بالإضافة إلى بعض السلطات الدينية، الوضع الإشكالي للعلوم الاجتماعية (نشأتها في ظل العهد الاستعماري وتمويلها الأجنبي) كوسيلة لإلغاء شرعيتها. ومن النادر في المنطقة العربية أن نسمع عن "ورقة بيضاء" كتبها باحثون أكاديميون بناء على طلب من السلطات العامة وناقشوها في المجال العام. ويعمل الباحثون الاجتماعيون إما كعناصر فردية في مصفوفة مشاريع التحديث. ويعمل الباحثون الاجتماعيون إما كعناصر فردية في مصفوفة مشاريع التحديث وليس كمجموعة مستقلة، أو كأفراد يقتصر دورهم على تبرير قرارات الحكومة. وفي المقابل، زُجّ بعلماء الاجتماع النقديين في السجون أو خرجوا إلى المنفى أو اغتيلوا.ففي إحدى المرات قال ضابط استخبارات لي: "كل مجموعتك لا يملأون حافلة واحدة، ويمكن بسهولة أن نأخذكم كلكم إلى السجن!". بشكل عام؛ تقوم البلدان العربية الاستبدادية بالتقليل دائماً من بروز "جماعة الحافلة"، سواء تم تعريفهم بأنهم مثقفون منشقون أو بأنهم طبقة وسطى مثقفة، في تحريك الاحتجاجات. وقد أكدت الانتفاضات العربية منذ عام 2011 في تونس وليبيا ومصر واليمن والبحرين وجهة النظر هذه.

لطالما أحست السلطاتُ الدينية بتهديد علماء الاجتماع كون الطرفين يتنافسان على مخاطبة المجتمع. وأسوق مثالاً من دراسة لي لتنظيم الأسرة في سوريا سنة 1994 والتي تحدثت عن نقاشات تلفزيونية حادّة بين شخصيّة دينية هي الشيخ الراحل محمّد سعيد رمضان البوطي [الذي جادل بأن الإسلام يعارض تنظيم الأسرة بجميع أشكاله] وإحدى الناشطات المناوئات لرجال الدين والمنتمية إلى الاتحاد العام النسائي السوري، وهو منظّمة ترعاها الدولة. مع أن مفهوم تنظيم الأسرة يقع ضمن مجال علم الاجتماع والديموغرافيا صراحة، لم يُستشَر أي من علماء الاجتماع في هذه المناقشات العامّة.

¶ اذاً هناك أشكالية تهميش العلوم الاجتماعية؟، هل يمكن استخدامها في الإصلاح الديني؟
- مع أن علم الاجتماع على مستوى العالم، وكذلك الفلسفة، من الأدوات الرئيسة المستخدمة في الإصلاح الديني، فالحال ليست كذلك في العالم العربي. يوجد في المملكة العربية السعودية مثلاً مركزان بحثيان لافتان أُسّسا حديثاً وهما مهتمان بربط الشريعة (الدراسات الشرعية) بالحداثة: مركز نماء للبحوث والدراسات ومركز التأصيل للدراسات والبحوث. يتحدث مركز نماء في بيان رسالته عن الحاجة إلى دمج خطاب إسلامي معتدل في الخطاب الفكري وأدواته من أجل "تطوير الوعي" والاطلاع على "معارف العالم المعاصر وخبراته". وبإلقاء نظرة فاحصة على أنشطة هذا المركز (دراساته ومحاضراته واستعراضاته للكتب) يظهر بجلاء وجود هذا الربط والدمج من خلال أدوات فلسفية ومنطقية لا من خلال العلوم الاجتماعية. ذلك أن الباحثين المنخرطين في هذا المسعى إما أنهم من المختصين في الشريعة أو الفلسفة أو التاريخ، أو أنهم مفكرون بكلّ بساطة.

وهذه عناوين ثلاثة دراسات تحمل دلالات واضحة على الموقع الإلكتروني: "الحرّية أو الشريعة؟"، و"مشكلات القيم بين الثقافة والعلوم"، و"مدرسة ابن رشد الفكرية وصلتها بالنهضة الأوروبية". إن الإشارة بإيجابية إلى مدرسة ابن رشد الفكرية أمر لم يحدث في الأمس القريب في دولة يهيمن عليها التيار السلفي والوهّابي. ينبغي للمرء هنا تسليط الضوء على الدور اللافت لثلاثة من الفلاسفة المغاربة هم محمد عابد الجابري ومحمد أركون وعبد الله العروي. يمثّل المفكران الأوّلان أبرز مثالين على الفكر العربي المعاصر الذي يفسّر التراث العربي الكلاسيكي. لا ريب في أن هناك استثناءات ولكن من نوع استخدام خفيف لعلم الاجتماع. عبد الله السفياني هو أحد المؤلّفين السعوديين الذين يروّج لهم مركز نماء. نال السفياني شهادة الدكتوراه في التعليم من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في سنة 2014 في مسعى للربط بين التربية كعلم وبين الفقه، وهو ما يلاحظه المرء في عنوان شهادة الدكتوراه التي نالها "نقد الأنظمة التربوية من خلال فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية وتطبيقها في ميدان البحث التربوي". وفي محاضرة في "قراءة في المؤثرات الخفية على الخطاب الفقهي" لعبد الله السفياني، يطعن المحاضر في قدسية الفقهاء مستخدماً الفلسفة والعلوم الاجتماعية في الإشارة إلى فرويد وابن خلدون.

إن بيان رسالة مركز التأصيل مشابه لسابقه، وإن كان اتجاه إصلاح المدارس الإسلامية المهيمنة الرئيسة السائدة أقلّ وضوحاً. واهتمامه بإعادة النظر في التفكير المعاصر بمثل أهمّية اهتمام مركز النماء لكنّه يستخدم تقويماً نقدياً للمفكرين الفلاسفة الغربيين مثل فرانسيس فوكوياما.

يتقوّى هذا الميل إلى نزع الشرعية بطريقة إجراء علماء الاجتماع تحليلاتهم إذْ أن منتجي المعرفة الاجتماعية في الغرب وفي المنطقة العربية يوجدون ما يسمّى أحياناً "أسطورة فرادة" العرب. اعتُبرت المنطقة العربية مكاناً يتميّز بخصوصية واستثنائية ثقافية، وبالمثل، اعتُبر المسلمون الذين هاجروا إلى الغرب فئة أنطولوجية غير متلائمة مع الثقافة. وهناك العديد من الأشخاص الذين لا يزالون يعتبرون المجتمعات العربية تشكيلة من متعصبين دينيين أو مجموعات قبلية متفرّقة. وهذه الاستثنائية صرفت الأنظار عن النقاش الحقيقي المتعلّق بالمجتمعات والسياسة والثقافة في المنطقة العربية، لا سيما على صعيد تحليل الطبقة الاجتماعية، وهو ما يُفرز وضعاً يقوم الباحثون في الغرب بدراسة الإسلام أو اللغة العربية بدلاً من دراسة المسلمين أو العرب.

باحث واستاذ في الجامعة الاميركية في بيروت