التاريخ: أيلول ١٤, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
لا اعتدال ولا وسطيّة من دون عقل وتنوير - محمد الحدّاد
تذكّر صدمتنا، اليوم، أمام «داعش» بالحيرة التي شهدناها بعد تفجيرات نيويورك في 2001، مع فارقين رئيسيين: أوّلهما أنّ الخطر لم يعد يهدّد غيرنا بل أصبح في عقر دارنا، تجسّده خلافة إسلامية في المشرق وإمارة إسلامية غرباً، في مدينة بنغازي الليبية، ومئات من الخلايا النائمة في كلّ مكان. وثانيهما أنّ العديد من التبريرات التي استعملت آنذاك لذرّ الرماد في العيون والتنصّل من المسؤولية فقدت صلاحيتها اليوم، فلم يعد ممكناً الادعاء أنّ الإرهاب قضية عرضية مسؤول عنها شراذم من الشباب المغرّر بهم. فهم اليوم ألوف مؤلّفة موزّعون على كلّ مدن العالم، ومنها البلدان الغربية، منزلقون بسرعة مدهشة في حضيض الإرهاب بما لم يظهر له مثيل في التاريخ. وستتواصل المأساة وتعظم ما لم نواجه الوضع بشجاعة ونتحمل جزءاً من المسؤولية الذاتية في هذا الدمار، ونقرّ بأنّ شيئاً ما ينبغي أن يتغيّر، ولكن ماذا؟

يقول بعضهم إنّ الإرهاب صناعة استخباراتية، لكنّ الحقيقة أنّ الأجهزة الاستخباراتية توظّف الإرهاب ولا تصنعه من عدم، ومنذ 2001، قامت السياسات الغربيّة على ما دعوته سابقاً بخطّة إعادة الإرهاب إلى أهله، أي التخلّص من تهديداته على مدن الغرب ومصالحه بإعادته إلى بؤر الصراع في مجتمعات العرب والمسلمين، ولم تضع الدول العربية والإسلامية بدورها استراتيجيات موحّدة للتصدّي للإرهاب، فكان كلّ بلد يتخلّص من شروره على حساب الآخر. وهنا جوهر المعالجة الاستخباراتية للإرهاب.

ويقول بعضهم إنّ الإرهاب تقف وراءه أميركا، ولو كانت اميركا قادرة على تصنيع الإرهاب من لا شيء لوجهته ضدّ الصين كي توقف تقدّمها الحثيث نحو ريادة الاقتصاد العالمي، أو لنجحت في توريط روسيا في حرب طويلة على شاكلة الحرب الأفغانية لتمنع عودتها إلى ساحة المنافسة الدوليّة، أو لاستعملته ضدّ كوريا الشمالية التي تهدّد برؤوسها النوويّة مصالحها في المحيط الهادئ، أو لتخلصت بواسطته من النظام الشيوعي في كوبا الذي تحاصره بلا جدوى منذ أكثر من نصف قرن. أجل، أميركا طرف في التلاعب الاستخباراتي بالإرهاب، بالمعنى الذي ذكرت سابقاً، لكنّها جزء فقط من المشكلة.

ويقول بعضهم إنّ الإرهاب سببه الاستبداد السياسي والبؤس الاجتماعي. ولا شكّ في أنّ الاستبداد والبؤس يدفعان إلى اليأس المؤدّي بدوره إلى الإرهاب، لكن لو اقتصر الأمر على هذا الجانب لرأينا الإرهاب يتراجع في بلدان الثورات العربية التي فتحت أبواب الأمل في الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. لكنّنا نرى العكس، فهذه البلدان تحديداً هي التي أصبحت أكبر ضحايا الإرهاب وأبرز مصنّعيه ومصدّريه، واستفحل الإرهاب فيها إلى أن ذهبت الثورات ضحية من ضحاياه. إنّ المعالجات الاستخبارية، والأطماع الأجنبية، والسياسات الفاشلة، والبؤس الاجتماعي، وغيرها أيضاً، عوامل تؤجّج الإرهاب وتساعد عليه، لكنّها ليست مصنّعه، فما يصنع الإرهاب هو الثقافة، أي الطريقة التي يتعامل بها بعض الناس مع التحديات التي تواجهه. فيمكن لمن يواجه الاستبداد السياسي أن يناضل من أجل الديموقراطية كما حصل في أميركا الجنوبية وأوروبا الشرقية، ولمن يواجه الفقر أن ينضمّ إلى نقابات عمالية كما حدث في الغرب أثناء الثورة الصناعية، ويمكن مقاومة الأطماع الأجنبية بتنظيمات وطنية فاعلة كما حصل في فترة الاستعمار، أمّا أن يقرّر آلاف من الناس أن يواجهوا ذلك بالانخراط في جيش المهدي أو خلافة داعش، فهذا يعني أنّ ثمة مسارب ثقافية غير مأمونة تدفع باستمرار لمواجهة مشاكل العصر بحلول من خارج العصر، وهي مبثوثة بيننا في كلّ مكان، في مكتباتنا ومدارسنا وإعلامنا وخطبنا، تجعل هذا يعيش على حلم استعادة الخلافة، وذاك على أمل الثأر للحسين، وبعضهم يدرّس كتب الفقه التي تتحدّث عن العبودية والسبي وأحكام الذميّة وكأنها وضعت اليوم، والآخر يدرّس مقالات الملل والنحل على أنها قضايا العصر.

ولقد أصبحت هذه المسالك غير مأمونة منذ أن انفلتت من رقابة المؤسسات التقليدية بظهور جماعات الإسلام السياسي التي نصّبت نفسها محلّها، ولم تفتأ تزايد بعضها على بعض. فما أن يعتدل جيل ويعلن التوبة إلاّ ويترك وراءه جيلاً جديداً أكثر تطرّفاً وعنفاً، حتى أصبح الظواهري يعدّ معتدلاً بالمقارنة بالبغدادي، مثلما عدّ سيّد قطب معتدلاً مقارنة بالظواهري، فأين ستقف السلسلة؟

لا سبيل اليوم إلاّ بتحصين العقل العربي والمسلم بالتنوير، ونشر الثقافة التنويرية حوله، كي تفهم الأجيال الجديدة أن أحداث الأمس، على أهميتها، طواها التاريخ، وأنّ العديد من الأحكام التي كانت صالحة قبل قرون فقدت صلاحيتها، وأنّ العالم تغيّر تغيراً جذرياً منذ اختراع المحرّك البخاري والكهرباء ووطئت أقدام الإنسان سطح القمر. لكنّ الثفافة التنويرية تظلّ ضعيفة في مجتمعاتنا، فلا نكاد نجد كتباً في تبسيط المعارف الحديثة، في الطبيعة والاجتماع، ولا نكاد نعبأ بجهود المفكرين العرب المعاصرين الذين سخّروا حياتهم لتقديم الأطروحات المتوازنة التي تواصل إيجابيات الماضي وتنفتح على ضرورات العصر، ولا تكاد توجد مؤسسات تعلّم تاريخ الأديان والفلسفات والأفكار بطريقة موضوعية وعلمية.

لهذا السبب تحديداً، نحن نعاني مثل بقية البشر من نظام عالمي جائر ومستبدّ، لكنّنا ننفرد عن غيرنا بصناعة التطرّف والإرهاب التي تزيد تكبيلنا وتعمّق تبعيتنا لهذا النظام. ومع كلّ مصيبة تحلّ بنا، ترتفع الأصوات، صدقاً أو نفاقاً، تمجّد الاعتدال وتمدح الوسطيّة، ولكنّ هذا وذاك دعاوى أخلاقية، لا ثقافة بديلة، وفي غياب التنوير في المجتمعات لن يتحقّق أيّ منهما. ولنتذكّر بعد 2001 كم ندوة عقدت ومشروعاً أعلن ومؤسسة رصدت لها الأموال، وكم مهرجاناً خطابياً أقيم، ثم لم ينفع ذلك في شيء. فالقضية لا تحلّ بمجرّد النيات الطيبة ولا بالشعارات والمسكّنات. اليوم نحتاج إلى أدوية حقيقية تعالج الداء من الأصل، والفكر المستنير هو القادر على المواجهة الصحيحة للمشاكل، وما عداه هو مثل الطبّ الرعواني الذي لا ينفع بل يزيد المعتلّ اعتلالاً.

وثقافة الإرهاب ليست ثقافة الذين يقطعون الرؤوس فحسب، وإنما هي ثقافة كلّ من ينقطعون عن العالم الحديث وقضاياه وحلوله، ومهما قلّبنا النظر نرى أنّ توظيف الإرهاب لا ينجح إلاّ في المجتمعات التي تتميّز بالقابلية لذلك.