مرة أخرى يجد العرب، والمسلمون تحديداً، أنفسهم متهمين. ففي مؤتمرٍ عقد في بلجيكا عنوانه "الأمل هو المستقبل"، دعت إليه منظمة "سانت إيجديو"، أحس المشاركون من العالمين، العربي والإسلامي، بشعور خاص، نتيجة أن جزءاً حيوياً من أجندة المؤتمر يصب في مساءلتهم بشأن ما تتعرض له الأقليات في العراق وسورية ولبنان من تهديدات جدية. وضع تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف بداعش، كل المسلمين أمام حرجٍ دولي، بسبب ما تعرّض له، خصوصاً المسيحيين واليزيديين، من انتهاكات خطيرة، تعلقت بحقهم في الحياة وحرية المعتقد، وبلغت حد سبي النساء، وبيع الواحدة منهن في الأسواق بـ 150 دولاراً، بحسب يزيدية عضو في البرلمان العراقي، ألهبت قاعة المؤتمر بشهادةٍ مؤثرة.
من فعلوا هذا جزء من الأمة، ولم ينزلوا في سورية أو العراق من كوكب آخر. يفعلون ذلك باسم الإسلام، ويقدمون أنفسهم بأنهم الممثل الشرعي الوحيد له، ما يجعل كل من له قول ورأي وسلطة معرفية، أو سياسية، داخل الدائرة الإسلامية مدعواً وجوباً إلى أن يحدد موقفاً واضحاً مما يجري، وإن لم يفعل ذلك يجد نفسه محل ريبة وشك.
ما يجري غيّر المشهد العربي، بشكل واضح وخطير. فعندما غادر بن علي السلطة في تونس، لم يتفاعل التونسيون وحدهم مع الحدث الكبير، وإنما العالم بأسره بدأ يفترض أن العرب وضعوا أقدامهم نحو الديمقراطية. لكن، سرعان ما بدأت التجربة تنفتح على مشهدٍ مختلفٍ، أصبح، اليوم، أقرب إلى غابةٍ أسطورية، ليس فيها سوى ابتكار مختلف حالات التوحش. لقد أصبح العالم العربي مسرحاً لقوى متعددة ومتضاربة المصالح والرؤى، لكنها متفقة على تحويل الحلم إلى كوابيس.
حتى الانتصار السياسي الرمزي الذي حققته المقاومة وصمود غزة، لم يجد له مكاناً ليتم استثماره والبناء عليه. فالأولوية اليوم، إعلامياً وسياسياً، في التركيز على التحالف الدولي، من أجل القضاء على هذا التنظيم الذي يصوره الجميع، وكأنه تحول فعلياً إلى خطر يهدد السلم العالمي، وكأنه لمجرد امتلاكه أسلحةً أصبح قادراً على القضاء على أميركا وأوروبا. هناك رغبة حقيقية في طمس ما حدث في غزة بآلامه وآماله، حتى يبقى العالم العربي رهينة الحسابات الدولية والإقليمية. وبذلك، يحرم من جديد من أن يبني مستقبلاً مغايراً لحاضره البائس. تونس التي لا يزال يُنظر إليها أملاً متبقياً، تتعرض لقصفٍ يومي ومحاولات تخريب. هناك إرادة لإجهاض المحاولة. لماذا ولأي أهداف؟ قد تختلف الأجوبة باختلاف خصوم التجربة، لكن القاسم المشترك وضع العراقيل أمام إمكانية فتح المجال لتغيير قواعد اللعبة في العالم العربي.
المستفيد الرئيسي مما يجري هو الغرب الذي تتخذون منه عدواً، لأنه، من خلال ما سيجري، سيعمل على إعادة ترتيب أوراقه في المنطقة، بطريقة تدعم مصالحه، وتعمق هيمنته على القرار، وعلى الثروات الوطنية.
هناك عمى استراتيجي، نعاني منه كثيراً في المنطقة، وهو الذي يساعد على فهم جانبٍ من حالة الدوران التي تجعل العالم العربي يعود، دائماً، إلى نقطة البداية. تتوفر له فرص تاريخية للخروج من كهفه، وكسر قيوده القديمة والجديدة. لكن، ما أن يبدو مسار التغيير متاحاً وممكناً، حتى تتولد حركية مضادة، تحيي عفاريت الماضي، لتعيد تحكمها في المفاهيم والعقول والمؤسسات والمصالح.
صحيحٌ أن العامل الخارجي كان، دائماً، حاضراً وبقوة، لكن القوى الدولية كانت، أيضاً، وفي كل المحطات والحالات تستند إلى تناقضات الداخل، وغياب الرؤى الاستراتيجية لدى اللاعبين المحليين. ومن هذا المدخل أو المداخل، ينطلق تخطيط مركز وذكي ومتعدد الأبعاد، لإحكام القبضة على مستقبل شعوب المنطقة. لهذا، متى نستعيد الرشد قبل أن يضيع الأمل، وتعود صخرة سيزيف إلى سفح الجبل، في انتظار من يحاول أن يرفعها من جديد، ويدفع بها إلى أعلى الهرم؟
صلاح الدين الجورشي كاتب من تونس، رئيس تحرير صحيفة "الرأي العام" الإلكترونية، وخبير في الحركات الإسلامية وقضايا المجتمع المدني. منسق لجنة البحوث والدراسات بالشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية. نائب أول سابق لرئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. |