ليس اختراعاً للبارود أن يقال إنّ حدود البلدان في المشرق العربيّ كانت، بين أمور أخرى، حدوداً في الدفاع عن الأقلّيّات الدينيّة والمذهبيّة. فتقليديّاً، كانت إطاحة الحدود بين تلك البلدان، طلباً للوحدة العربيّة المزعومة، دعوة أكثريّة بالتعريف. هكذا عُرف مسيحيّو لبنان بالخوف من إطاحة الحدود التي تهدّد بجعلهم أصغر عدداً وأقلّ نفوذاً وأضعف ضماناتٍ وإمكانات. وكانت هذه بالضبط مشكلتهم الأولى والأساس مع قيام "الجمهوريّة العربيّة المتّحدة" (مصر وسوريّا) في 1958، في ظلّ زعامتها الناصريّة التي وُصفت بتحدّي الحدود تمهيداً لإزالتها. ومن هنا نشأت الحساسيّة البالغة التي عبّر عنها فؤاد شهاب حين التقى جمال عبد الناصر في خيمة منصوبة بالتمام على حدود البلدين. بهذا اكتسبت رمزيّةً عالية حقيقةُ أنّ عبد الناصر لم يطأ أرض لبنان.
ولم يقتصر الأمر على المسيحيّين اللبنانيّين. فشيعة العراق مثلاً، وهم ليسوا أقلّيّة في بلدهم، خافوا بدورهم من مشاريع الوحدات الأكبر كما طرحها البعث والقوميّون العرب أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. هكذا التفّوا حول الزعيم عبد الكريم قاسم (وإلى حدّ ما الحزب الشيوعيّ العراقيّ) بوصفه الحامي لحدود العراق ووطنيّته في مواجهة المدّ الناصريّ الذي قرئ بوصفه مدّاً سنّيّاً بإيديولوجيّة عروبيّة ودمجيّة. قبل ذاك كانت الأقلّيّات الدينيّة والمذهبيّة والإثنيّة في سوريّا متخوّفة جدّاً من تذويب الحدود الوطنيّة (لا الجغرافيّة) السوريّة في "الجمهوريّة العربيّة المتّحدة". لقد أحسّت أكثريّات تلك الأقلّيّات (المسيحيّة، العلويّة، الدرزيّة، الاسماعيليّة، الكرديّة) بأنّ جزءاً من ضمانتهم وحصانتهم قد انهار، وأنّهم باتوا أصغر قياساً بالأكثريّة السنّيّة – العربيّة المفتوحة على امتداد مصريّ. الوجه الآخر لهذه الحقيقة هو تحديداً ما رأيناه مع إطاحة "داعش" للحدود السوريّة – العراقيّة مؤخّراً. فلم يكن بالصدفة تالياً أن تتلازم هذه الخطوة مع أعمال التطهير الواسع التي طالت المسيحيّين والإيزيديّين والشبك في العراق. هذا ليس للقول إنّ الدول القائمة امتلكت ضمانات كافية للأقلّيّات (أو للأكثريّات كذلك، منظوراً إليها كمواطنين). إلاّ أنّ ما نحن في صدده اليوم هو التهديد المطلق بما فيه من نقل الحصار السياسيّ والثقافيّ المديد إلى سويّة الاستئصال الجسديّ.
وفي ضوء التجربة الناصعة التي قدّمتها إطاحة الحدود السوريّة – العراقيّة، على يد "داعش"، يتبيّن الخطر الفعليّ الذي رتّبه انخراط حزب الله في الحرب السوريّة، وما تأدّى عنه من إزالة عمليّة للحدود اللبنانيّة – السوريّة. فهنا، وعلى عكس الادّعاءات الكثيرة حول حماية الأقلّيّات، نفّذ الحزب برنامجاً أكثريّاً راديكاليّاً عاشت الأقلّيّات طويلاً وهي تكافحه. وما من شكّ أنّ الأقلّيّة الشيعيّة لا تقلّ عن باقي الأقلّيّات خوفاً من هذا البرنامج الذي يزيل الحدود ولا يعد إلاّ بالجنّة!
|