سبقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة زميلها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إلى اختيار «خيارات صعبة» عنواناً لمذكراتها، فيما لو فكر أن يؤلف كتاباً يؤرخ فيه أحداث المرحلة من وجهة نظر سعودية، ليس وحده، فالجميع يواجه «خيارات صعبة»، والمشكلة أنه مع كثرة هذه الخيارات، وصعوبتها، ينتهي الجميع إلى حالة «لا قرار» بينما تستمر الأحداث تتداعى، وتتعقد أكثر، بل إن السيئ يصبح أكثر سوءاً، والمنهار ينهار أكثر، وقوى «خارج الدولة» تختار وتقرر وتمضي قدماً في ما تريد، بينما يقلّب الساسة الذين يمثلون الأنظمة القائمة خياراتهم الصعبة إلى ما لا نهاية.
نظرياً، من مصلحة السعودية وإيران وبقية دول المنطقة، أن تتّحد جميعاً لمواجهة «الدولة الإسلامية - داعش» تؤازرها في ذلك الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، ولكنها فعلياً، مصالحها متباينة، وأولوياتها متعارضة، والثقة بينها مفقودة، وبالتالي فهي جميعاً أمام «خيارات صعبة» ستعطلها وتؤخر قرارها، عندما تجتمع على طاولة واحدة، وتبدأ في رسم الخطط للقضاء على «داعش».
السعودية وإيران، وعلى رغم الخصام القديم بينهما، متفقتان على أن «داعش» يهدد أمنهما القومي، ولكن بينما تريد السعودية القضاء على «داعش» فإنها لا تريد أن تستفيد إيران من ذلك، فـ «داعش» نجح في كسر منظومة «الهلال الشيعي» الممتد من طهران حتى بيروت، مروراً بالعراق وسورية، بل إن ايران أصبحت عاجزة عن تموين حليفها في دمشق بالأسلحة والنفط براً عبر الأراضي العراقية بعدما سلخ «داعش» معظم العراق الأوسط لمصلحة «دولته الإسلامية»، وضمته (أو العكس فلا فرق هنا) إلى مقابله في الجانب السوري، محافظتي دير الزور والرقة التي يسيطر على معظمهما، وبالتالي سيطر على كل المعابر بين البلدين، بالتالي يمكن القول إن «داعش» كسر حرفياً «الهلال الشيعي»، الذي يعبّر عن طموحات إيران التوسعية.
كما أن السعودية لا تريد لإيران بعد الانتصار على «داعش» أن تعود الى سيرتها الأولى في العراق، أي الهيمنة الكاملة وتغليب أحزابها الطائفية، لا الشيعية فقط، فهي تختار من الشيعة من يواليها ويشاركها أحلامها الأصولية. لقد كان صعباً على إيران تقبّل ذلك بعدما ازدادت عليها الضغوط للتخلي عن رجلها القوي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، على رغم إغراء العرض الدولي والسعودي معاً بدعم حكومة العراق في مواجهة «داعش» شرط التخلي عن المالكي وتشكيل حكومة وحدة وطنية عراقية يرضى عنها السنّة والأكراد، قبلت ايران بعد مماطلة وبصعوبة الشرط الأول، ولكنها غير قادرة على ابتلاع الثاني، فلم ينجح حتى الآن خليفة المالكي مرشح حزب «الدعوة» الأصولي هو الآخر، صديق إيران، حيدر العبادي في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية المطلوبة، بسبب رفض مطالب السنّة وإصرار حلفائه على السيطرة على الأجهزة الأمنية. تستطيع إيران أن تغيّر كل ذلك، ولكن التخلّص من العادات القديمة صعب جداً، خصوصاً عندما تختلط بأوهام أصولية.
وبينما من الصعب على السعودية التدخل المباشر في الحرب على «داعش» في العراق، حتى لو كان ذلك في إطار تحالف دولي، فإن ذلك سهل على إيران، فهي موجودة أصلاً في الأجهزة الأمنية العراقية تسليحاً وتدريباً ومخابراتياً، بل ومشاركة مباشرة بقواتها الخاصة وإن نفت ذلك، فهي قلقة من أن تنقل معركتها مع «داعش» إلى داخل إيران، وهي مسألة وقت وستحصل، فإرهاب «داعش» يهدد إيران بقدر ما يهدد المملكة، ما يعني أن ثمة حاجة لتبادل المعلومات الأمنية بين البلدين، ولكنهما يحتاجان إلى تعزيز الثقة ببعضهما.
إن كان ما سبق «خيارات صعبة» للسعودية، فإن الموقف من النظام السوري «خيارات أصعب»، فثمة إشارات تقول إن هناك توجهين يتنازعان العقل السياسي السعودي، أولهما الاستمرار برفض النظام وإعادة تأهيله لأسباب أخلاقية عبّر عنها الملك عبدالله في كلمته التاريخية للشعب السوري (وليس النظام) في آب (أغسطس) 2011 بعد 5 أشهر من اندلاع الثورة السلمية السورية، والصبر والصمت السعوديين حيال بشار الأسد ونظامه، ولكنه ما استطاع احتمال صور القتل اليومي فأعلن مسؤولية المملكة التاريخية تجاه الشعب السوري، وحدد السياسة السعودية تجاه سورية «بوقف آلة القتل وإجراء إصلاحات حقيقية» وهو ما لم يحصل حتى الآن، وبالتالي لا يوجد أي مبرر أن تغيّر المملكة نظرتها تجاه بشار، يعزز من ذلك رأي استراتيجيين سعوديين أنه حتى لو تجاوزت المملكة التزامها الأخلاقي وأوقفت دعم المعارضة المسلحة بالكامل فإن بشار سيعجز عن السيطرة على كامل سورية وإعادة الاستقرار إليها، ما يعني استمرار الحرب الأهلية التي تغذي «داعش».
التوجّه الثاني يعبّر عنه حليف المملكة الجديد القديم، مصر التي ترى وجوب وقف دعم المعارضة المسلحة وإعادة تأهيل بشار لمواجهة التطرف في المنطقة، وهو رأي له آذان صاغية في المملكة، ولكنه يصطدم بالالتزام الأخلاقي السعودي الذي أعلنه العاهل السعودي في الكلمة المشار إليها والتحليل السابق الذكر.
الولايات المتحدة وفرنسا وهما حليفتان أيضاً للمملكة، أعلنتا بوضوح أن لا مجال لإعادة تأهيل بشار وأنه فقد شرعيته، وأي إجراءات ضد «داعش» سيرتب لها من دون أن يستفيد منها بشار ونظامه.
التدخل المباشر في الحرب على «داعش»، بمشاركة جوية، وحرب أرضية «أصعب، أصعب الاختيارات»، فالمملكة قاومت إغراء التدخل المباشر في سورية على أمل أن تستطيع المعارضة إسقاط النظام، أو يكرر المجتمع الدولي ما فعله في ليبيا، ولكن استقرار «داعش» بـ «دولة» على تماس بطول حدود المملكة الشمالية مع وجود سعودي يتنامى في أركان «دولته» يستدعي ردَّ فعل سعودياً مختلفاً هذه المرة. ولكن المصالح المتناقضة وعدم الثقة بين دول المنطقة تجعل الإقدام على تحرك كهذا مستحيلاً اليوم، وهو ما يسعى لعلاجه أو مناقشته على الأقل وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي طلب منه التوجه إلى الشرق الأوسط «لبناء تحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية».
أتوقع أن المملكة لن تتهور وتتخذ قراراً من بين «الاختيارات الصعبة» المعروضة عليها، فهي معنية أولاً بحماية الجبهة الداخلية التي باتت مهددة بعدما نشطت «القاعدة» أو «داعش» (لا فرق) فيها نتيجة انتصارات الأخيرة في العراق وسورية، ثم إنها في سعة من أمرها حتى تتشكل حكومة الوحدة الوطنية العراقية، ثم يعقد مؤتمر باريس لدعم العراق، ثم يصل كيري لمناقشة بناء التحالف ضد «داعش».
الخلاصة: مشروع القضاء على «داعش» لا يزال في بدايته، والمهم الآن حماية الجبهة الداخلية، فأمامنا سنوات عدة عنوانها «الحرب الكبرى على الإرهاب».
* اعلامي وكاتب سعودي |