التاريخ: تشرين الأول ٢٨, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الفائزون الكبار في تونس لا يعادون الخطاب الاسلامي وتشتت اليساريين والعلمانيين خطأ تاريخي أفاد "النهضة"

بعد عشرة أشهر من إحراق محمد البوعزيزي نفسه وانطلاق صرخة "ديغاج" (إرحل) مدوية في وجه زين العابدين بن علي، تردد الهتاف نفسه في أذني راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، لدى تلويحه بأصبعه المخضب بالحبر بعد إدلائه بصوته في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. إنه الرجل القوي الجديد الذي انقسم التونسيون حياله، كأن الاقتراع استفتاءٌ على شخصه.

إذا كان حلول الحزب الإسلامي أول لم يكن مفاجئاً، فإن الحصة التي غنمها فاقت كل التوقعات. وبينما انشغل علمانيون وليبراليون ويساريون في إعلان "الحداد" على مواقع التواصل الاجتماعي وخرجوا في تظاهرات تندد بـ"الخوانجية"، في إشارة إلى صلات الغنوشي بـ"الاخوان المسلمين"، دعا البعض إلى قراءة موضوعية للنتائج. أي مراجعة أسباب تقهقر التيارات غير الإسلامية، داخل البلاد كما في أوساط المغتربين.


أين أخطأت التوقعات
منذ تقرر وضع دستور جديد وعدم الاكتفاء بتعديلات تُطرح على استفتاء كما في مصر والمغرب، تحدث الجميع عن "ثلاثي فائز". أركانُه "النهضة" أولاً نظراً إلى شرعيتها الشعبية الناجمة عن اضطهادها في عهد بن علي وأدائها القوي في آخر انتخابات سُمح لها بخوضها عام 1989. ثم الحزب الديموقراطي التقدمي الذي أسسه عام 1983 المحامي المعارض أحمد نجيب الشابي بتوجهات اقتصادية ليبرالية. وبعده التكتل من أجل العمل والحريات، وهو تيار نخبة وسط اليسار، ويتزعمه الطبيب والناشط الحقوقي مصطفى بن جعفر.


غير أن حكم صناديق الاقتراع كان مغايراً. إذ حل ثانياً المؤتمر من أجل الجمهورية الذي ينتمي إلى "اليسار الإسلامي". وفي سيرة رئيسه المنصف المرزوقي أيام طويلة في المنفى الفرنسي، تماماً مثل الغنوشي الذي وجد مأوى في لندن. وإذ جاءت نتائج "التكتل" منسجمة مع التوقعات، اخترقت "العريضة الشعبية للعدالة والحرية والتنمية" بزعامة الثري الإسلامي الهاشمي الحامدي نادي الفائزين. وهو عمل سنوات في صحيفة "الشرق الأوسط" قبل إطلاق مشاريعه الإعلامية الخاصة. ويُعتقد أنه حظي بدعم فلول الحزب الحاكم السابق مع أنه أيد "النهضة" في مراحل سابقة. وسجل التقدمي الديموقراطي مكاسب خجولة هي أشبه بالخسائر.


إنه إذاً "رباعي فائز"، فيه قطب كبير وثلاثة أحزاب لا تعاديه. ولا بد من القول ان الخلفية الإسلامية لم تكن بذاتها عاملاً ضامناً للفوز، ذلك أن عبد الفتاح مورو، أحد مؤسسي "النهضة" مع الغنوشي والمختلف معه منذ سنوات، مني بهزيمة مذلة بعدما اختار اللوائح المستقلة، وهي تحالف هجين بين بعض الإسلاميين والأكاديميين والليبراليين ورجال الأعمال وغلاة اليسار.


إخفاقات اليساريين والعلمانيين
وهناك مسألة الصدقية. فالديموقراطي التقدمي أضاع رصيده النضالي لانخراطه في الحكومة الأولى بعد بن علي التي أبقت كثيرين من وجوه نظامه، بينما رفض بن جعفر دخولها. كما أن الشابي، ومعه الزعيمة الحالية للحزب مية الجريبي، خاضا الحملة الانتخابية بشعارات إقصائية تقتصر على مناقضة "النهضة".


وفي الإجمال، أظهرت التيارات اليسارية والعلمانية والليبرالية "غباوة سياسية"، كما رأت صحيفة "الصباح"، لانقسامها بين لوائح متصارعة وخطاب مشتت. ولاحظت "الشروق" أنها تعاملت مع الواقع باعتباره "لحظة نظرية" واكتفت بـ"نشوة تحقيق الثورة"، فأخفقت في التواصل مع العامة وأقامت مهرجاناتها في أماكن راقية.


وفي المقابل، برزت "النهضة" حزباً "مشربُه ديني وفعلُه سياسي براغماتي". فبرنامجها الذي يقع في 50 صفحة خلا من ذكر الشريعة الإسلامية، ولم يتطرق إلى مجلة الأحوال الشخصية الصادرة عام 1956 والتي تحظر تعدد الزوجات. والأهم أنه أبقى الفصل الأول من دستور عام 1959 الذي ينص على أن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينُها والعربية لغتُها والجمهورية نظامُها". وهذا كان بيت القصيد بالنسبة إلى العلمانيين الذين حذروا من إلصاق صفة "إسلامية" بالدولة والجمهورية.


ويعزو الخبير في الشؤون المغاربية بول فيرميرين فوز "النهضة" في فرنسا إلى عوامل نفسية، بينها رغبة تونسيي الخارج في إثبات كونهم لا يقلون "وطنية" عن أهل الداخل، وقدرتهم على التماهي مع نفي رموز الحركة واغترابهم. أضف أن الخطاب الديني يستهوي المقيمين في بلد علماني غربي يلفظهم إلى هامشه. وتقر لمياء علال، وهي من طاقم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في باريس، بأن "الحزب الإسلامي نجح في مس وجدان الطبقات الشعبية غير المتعلمة، بينما أخفقت تيارات الوسط واليسار في العمل معاً".


وتحدثت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية عن "خطأ لا يُغتفر" للعلمانيين الذين تشتتوا في معارك داخلية ولم يتعاونوا حتى بالحد الأدنى، و"قد كان ذلك ليغير كل شيء". وإذ ذهبت إلى القول انه "إذا كانت الثورة التونسية تعرضت للخيانة، فإن ذلك تم نتيجة افتقار العلمانيين إلى حس المسؤولية لأنهم لم يكونوا على مستوى الحدث"، عادت لتتساءل "أين الكارثة؟". فالانتخابات خلت من الشوائب، غير أن "الغرب يعشق اختراع المخاوف".


ماذا بعد
بعدما أعيد رسم الخريطة السياسية للبلاد، سيكون على المجلس الوطني التأسيسي اختيار رئيس يسمي رئيساً للوزراء يشكل حكومة انتقالية. الفائزون الكبار سيتقاسمون المناصب، ولا يبقى أمام المعارضة الجديدة - القديمة، أي التيارات العلمانية واليسارية، إلا تقويم أدائها للإعداد لمعركتها المقبلة، الانتخابات النيابية والرئاسية المرجحة في تشرين الأول 2012.


وإذا كانت مسألة الفصل الأول حسمت، فإن ثمة الكثير من العمل بعد لإعداد دستور عصري من 90 فصلاً على الأقل. وأمام المجلس 20 نصاً مقترحاً والكثير من المطالب، من تثبيت حقوق النساء إلى الاعتراف بالأمازيغية لغة رسمية وإلغاء عقوبة الإعدام. والأهم مراجعة صلاحيات رئيس الجمهورية بعدما صار النظام الجمهوري مع الحبيب بورقيبة وبن علي شبه ملكي...
في كل الأحوال، تجد "النهضة" المتأثرة بحزب العدالة والتنمية التركي نفسها أمام فرصة تاريخية لمصالحة العلمانية والتدين، وتقديم نموذج عربي أول لحكم الإسلام السياسي المنتخب. وإذ يبدو أن "الربيع العربي" حرر المارد الإسلامي وسط مخاوف من "خريف" للنساء والحريات، تثار تساؤلات قلقة عن قدرة الثوار، من ليبيا إلى سوريا واليمن، على إقامة أنظمة ديموقراطية مدنية. وتتجه الأنظار خصوصاً إلى التيار الديني الأقوى في المنطقة، "الإخوان المسلمين"، والانتخابات المصرية الشهر المقبل.