التاريخ: شباط ٢١, ٢٠١٣
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
محاولة للدخول إلى عمق "التجليط" الانتخابي اللبناني - جهاد الزين

إقرار "المشروع الأرثوذكسي" رغماً عن هذا النوع من المعترضين عليه سيصبح إقرارا رغما عن "الدروز" و"السنة". مما يعني بمفاهيم النظام الطائفي ضربا للميثاق. وهذا أمرٌ لا بد أن يأخذه العماد ميشال عون في الاعتبار الأساسي أو أن يجعله حليفاه الشيعيان يقبل به.

مع أني لا أزال أعتقد مثل عديدين أن مشروع النظام الانتخابي المسمّى "القانون الأرثوذكسي" لم يُطرح ليُقر نهائيا حتى لو أقرّته اللجان النيابية المشتركة وإنما طرح لإحداث صدمة داخلية جادة في لحظة تحولات عميقة في المنطقة وعلى خلفية تراكمات مختلفة الأشكال لتراجع نفوذ النخبة الطائفية السياسية المسيحية في الدولة اللبنانية حيال الطائفيات السنية الشيعية الدرزية.
... مع ذلك فإن بلوغ "المشروع الانتخابي" هذه الدرجة من الجدية (ليس حقيقة وإنما هو أكثر بكثير من مجرّد مناورة) يَفترِض التوقف عند بعض الملاحظات التي أدّعي أنها جوهرية لفهم ومراجعة "اللحظة" التي يكاد لا يصدّق البعضُ وجودَها:

1 - للذين يُدهَشون من "الإجماع" المسيحي اللبناني على هذا المشروع، وهو أساساً في الواقع إجماع ورثة مدرسة "المسيحية المقاتلة" التي ظهرت في السياسة اللبنانية عام 1958 بشكل أوّلي ثم عام 1975 بشكل كثيف، ... لهؤلاء المندهشين نذكّرهم بأن "المشروع الأرثوذكسي" هو آخر التعبيرات عن تململ كياني للنخبة المسيحية من الصيغة اللبنانية، التململ الذي ظهر عام 1975 عندما ردّت النخبة المسيحية النافذة شعبياً على إخلال النخب المسلمة بالميثاق الوطني عام 1969 بتأييدها السلاح الفلسطيني رغما عن الدولة اللبنانية، فأقدمت هذه النخبة المسيحية على"تعليق" الدولة اعتبارا من 13 نيسان من ذلك العام تحت المعادلة التالية:
أنتم جمّدتم الميثاق ونحن نجمّد الدولة بانتظار أن نتّفق من جديد!

صحيح أن مياها كثيرة سالت تحت جسورنا الهشة منذ ذلك التاريخ، لكن يمكن القول أن هذه المدرسة هي من مانعت طويلا ضد عودة صيغة كيانية جديدة "أفلتتْ" منها مع أنها هي التي أسّستها ولكنها باتت تعتبر ولا تزال علنا وضمنا أنها لم تعد الصيغة التي تلائمها وهي إُدخِلتْ عنوةً إليها عام 1990 بقرار النظام الدولي آنذاك وبالقوة العسكرية للنظام السوري.
لا داعي لتكرار ذكر أشكال "الممانعة" المسيحية المختلفة منذ ذلك التاريخ وآخرها-بدون أدنى شك- "المشروع الأرثوذكسي" الذي تَوفّر "الإجماعُ" عليه بسبب رفد مجرى التململ بروافد عميقة مستجدة في سوريا والمنطقة والفاتيكان جعلت الكنيسة المارونية تقود مسار طرحه.

2 - الشيعية السياسية الممثَّلة بـ"حركة أمل" و"حزب الله" والمسيطِرة بشكل شبه مطلق على الطائفة الشيعية تلعب لعبة ذكية ولكن خبيثة. هي تعرف أنها من ناحية الآلية الداخلية لنفوذها في أكثر من ربع القرن المنصرم لا يلائمها قطعا المشروع الأرثوذكسي. فهي شريكة أكيدة في إضعاف النفوذ الماروني في الدولة قتاليا بعد 1975 وخصوصا بعد 1979 وشريكة في "نهش" التمثيل المسيحي إلى جانب "تيار المستقبل" المستفيد الأول لأنه العملاق الانتخابي الأول في "قانون الستين" يليه "العملاق" الثاني الشيعي فالدرزي الجنبلاطي... برعاية النظام السوري سابقا وبرعاية التوازن الإقليمي الدولي الجديد لاحقا حتى اندلاع الثورة السورية. مع ذلك ولتقاطعات معقّدة ودقيقة داخلية وإقليمية تدّعي الشيعية السياسية أنها مع المشروع الأرثوذكسي (بذهنية التنازل عن مقعد وزاري في الحكومة الحالية ولكن على مستوى أضخم!). حتى الآن اللعبة ممكنة، فقد بلعت شعارَها المسرحي ("إلغاء الطائفية السياسية") القديم وانضمّت في حساب شديد الولاء لأولويات الصراع الكبير في المنطقة إلى تأييد "أعنف" تململ سلمي مسيحي في مشاريع الأنظمة الانتخابية. لكن بعد أيام وتحت شعار أن رفض القوتين السنية والدرزية للمشروع الأرثوذكسي سنشهد إخراجا ما لتسوية ما تقودها هذه "الشيعية" في البرلمان أو تحت طائلة التهديد برفضه الشكلي في المجلس الدستوري، المؤسسة الوحيدة التي "يسيطر" عليها الرئيس الجنرال ميشال سليمان؟

3 - يلعب "تيار المستقبل" لعبة صريحة. الحزب الأقوى تمثيلا للديناميكية المذهبية السنية في مواجهة ديناميكية "الحزبين الواحد" الشيعية صار بإمكانه في هذه اللحظة أن يرفع شعار رفض التفكيك الطائفي للبلد بسبب "فداحة" المشروع الأرثوذكسي. لكن هذا النوع من القوى الطائفية مثل أقرانه في الطائفيات الأخرى لا يريد ولا يستطيع أن يعترف أن "وجوده" هو في قلب المشكلة وأنه مسؤول مثل الطائفيّتين الأخريين الشيعية والدرزية عن النظام الطائفي الذي يمثل المشروعُ الأرثوذكسي خلاصتًه "الطبيعية" في ما آل إليه "تطور" هذا النظام الطائفي. وينبغي أن يكف "المستقبليون" في معارضتهم لهذا المشروع عن أن يطرحوا أنفسهم وكأنهم وحدهم المدافعون الأشاوس عن "الوحدة الوطنية" إلا إذا اعترفوا أن مفهوم الوحدة الوطنية الذي يقصدونه هو تعايش الدويلات الطائفية الفعلية التي أصبح عليها نظامُنا السياسي وهم يديرون إحدى هذه الدويلات الرئيسية. فالتجليط هنا يشبه التجليطة الطائفية الشيعية السابقة عن "إلغاء الطائفية السياسية".

¶¶¶

لا شك أن انسحاب الحزبين "الحريري" والجنبلاطي" من أي تصويت كتعبير عن رفض المشروع يجعل المعضلة ميثاقية فعلاً ولا يستطيع عندها النظام السياسي أن يتحمّلهُ ولا الأكثرية الحكومية أن تُقرّه بأغلبية عددية نيابية لأن "الأكثرية النوعية" (أظن التعبير للراحل صائب سلام) مفقودة. وبالتالي الإصرار العددي عليه هو ضرب لـ"الميثاق" بمعناه الواقعي. ولعل هذا المستوى الخطِر من السجال يطال حزبَيْ الشيعية السياسية قبل غيرهما لأن الاقرار رغما عن المعترضين سيصبح إقرارا رغما عن "الدروز" و"السنة". وهذا أمرٌ لا بد أن يأخذه العماد ميشال عون بعين الاعتبار الأساسي أو أن يجعله حليفاه يقبل به.

تبقى مجموعة "الأيتام" السياسيين من الشباب - الأقلية المتعدّدي الطوائف الذين عليهم – وأقترح ذلك بتواضع وصداقة - أن لا ينخرطوا بحماس في معركة عليهم أن يكونوا واثقين وبلا أوهام أنها لن تنتهي في الظروف الحالية إلا لصالح تكريس النظام الطائفي المذهبي. باختصار: بلا سذاجة أيها اليتامى العلمانيون. إلا إذا كانت "العلمانية" في لبنان تنتقل من استخدام طائفي إلى استخدام طائفي آخر.
أشعر في هذا المجال أنه بالنسبة للشباب فإن معركة "تسجيل أول زواج مدني" هي أنظف بكثير. أصغر وقد تكون هامشية جدا الآن ولكنها أعمق مبدئيا.