التاريخ: كانون ثاني ٢٩, ٢٠١٤
المصدر: جريدة المدن الالكترونية
سوريا الثورة اليتيمة والتمرّد على الأبد
ديمة ونوس

بعد عام على انطلاق الثورات العربية في تونس ومصر ثم ليبيا وسوريا، صدر عدد من الكتب السياسية والأدبية التي تتخذ من تلك الانطلاقة موضوعاً لها ومن "الربيع العربي" عنواناً عريضاً. 
 
جاء معظم تلك الإصدارات هزيلاً، إذ من المبكر جداً الحديث عن ثورات متكاملة أطاحت بانظمة ديكتاتورية متجذّرة وأتت بغيرها، مع تفاوت تجربة كل بلد عن الآخر. وحدها كتب اليوميات، تحمل معنى آخر لتلك الثورات وتوثق تجارب فردية يمكن تعميمها على شريحة من الناس. 
 
كانت للثورة السورية حصة كبيرة من تلك الكتب والدراسات لما تشكّله من استثنائية في استمرار القتل الممنهج الذي يرتكبه النظام السوري على مدى أعوام ثلاثة. ومع مرور الوقت، بات تحليل الوضع السوري أكثر تعقيداً. وباتت الإحاطة بما يجري على الأرض من جهة وعلى الصعيد السياسي من جهة أخرى، أمراً مستحيلاً. اذ لم يعد الموت دهشة يومية، بل طريقة حياة اعتادها السوريون أينما كانوا واعتادها - معهم- الرأي العام العالمي. 

"منذ اندلاع الثورة السورية في آذار(مارس) 2011، منادية بالحرية والكرامة وإنهاء أربعة عقود من حكم الإستبداد، ورغم سقوط أكثر من 130 ألف قتيل (بينهم أكثر من 11 ألف طفل) وإصابة واعتقال وتعذيب وتشريد أكثر من 8 ملايين شخص (....) ورغم ملايين الصور والافلام والشهادات التي توثّق مأساة الشعب السوري، ورغم استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد مدنيين في أكثر من منطقة سورية (....) يستمرّ تلكّؤ مؤسسات "المجتمع الدولي". هكذا يمهّد الكاتب اللبناني وأستاذ دراسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد لكتابه الصادر حديثاً عن دار"شرق الكتاب". 

كتاب "سوريا، الثورة اليتيمة" - الصادر عن دار "شرق الكتاب"، عبارة عن "محاولة" من كاتبه، لتسليط ضوء على جوانب محدّدة من "المسألة السورية" على مقربة من الذكرى الثالثة لانطلاق "ثورة تبدو يتيمة"، يقول زياد ماجد في مقدمة كتابه مستعيراً عبارة "الثورة اليتيمة" من المثقف السوري المنفي في باريس فاروق مردم بك في وصفه للثورة السورية بعد عامها الأول. 
 
168 صفحة، يحاول زياد ماجد عبرها، تحليل بعض جوانب الثورة السورية منذ انطلاقتها وحتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2013. وفيما يبدو الكتاب في بعض فصوله، مجرّد استعراض سريع لأحداث بارزة من عمر الثورة، فأنه في مكان آخر، يتسلّل إلى العمق ويفتش بحرص كبير على أهم إنجازات تلك الثورة في تغيير "الشخصية السورية" وفي الانقلاب على "القدر" الملتصق بشعب محكوم بعبارة "إلى الأبد". "الثورات عبّرت عن رغبة في تملّك الزمن السياسي أو لنقل في استعادته وفي إنهاء تجميده الذي سعى إليه الحكّام". إلا أن الثورة السورية تحديداً، تجاوزت منذ الأشهر الأولى لانطلاقتها، حلم القضاء على "أبدية اللحظة"، إذ يبدو النظام الذي روّج لفكرة "الأبد" ماضياً في قتل أبدي مرتبط بوجوده، ولن يتوقف إلا مع رحيله. 

الكتاب الذي يتركّز في معظمه على استعادة مجريات الثورة في أول عامين لها، يستثير حنين القارئ إلى تلك المرحلة الصاخبة بتمرّد عام تشترك فيه معظم المحافظات السورية، وتخرج إلى الشوارع أيام الجمعة وترقص متلاصقة بعضها ببعض، مردّدة الشعارات ذاتها، محتفلة بالحرية وباقتراب النصر. تلك المرحلة التي كان الأمل فيها لا يزال متقداً، تضجّ بالحماسة، كأنّ سنوات طويلة مضت عليها. كثافة الزمن والموت الذي تعيشه معظم المناطق كل دقيقة، يجعل الإحساس بالوقت أبطأ بكثير فيعيش السوريون في الداخل خاصة تجارب تفوق الزمن وتفيض على قدرة استيعابهم لها. 
 
في الفصل الأول من الكتاب "سوريا الأسد ودعاية الممانعة والحداثة"، يعرض زياد ماجد أطوار القمع والعنف اللذين مارسهما نظام الأسد الأب والإبن عبر عقود أربعة. وتلك الأطوار التي مرّت بها تجربة "المواطن" السوري، لا يمكن تجاهلها لفهم مجريات الثورة الحالية وآلية عمل الناشطين المدنيين والتنظيمات الإسلامية المسلحة. "نجح النظام السوري في ترويض الحياة العامة (....) ومصادرة الحيّز العام ومساحات التعبير وكل فسح التجمّع والانتظام السياسي"، مطبقاً على "النقابات والأحزاب والصحف والمثقفين وسائر قوى المجتمع المدني". 
 
وفي فصل "بشار الأسد، شبح الأب، و"الخيار الصيني" وأزمات الإقليم"، يذكّر زياد ماجد بما عاشته سوريا من "انقتاح سياسي" خلال الأشهر الأولى من تولّي بشار الحكم بتعديل دستوري، وما أطلق عليه "ربيع دمشق" والتراجع السريع عن تلك "الإصلاحات" المزعومة، عبر حملة اعتقالات طالت مفكرين ومعارضين وإغلاق المنتديات السياسية فظهر "شبح الأب ليحكم من جديد". وهذا ربما ما يفسّر انعزال النخبة بعد انطلاق الثورة السورية. والانعزال لا يعني الوقوف ضدها بطبيعة الحال بل الارتباك أمام مبادرات جيل جديد لم تتمكّن القبضة الأمنية منه بعد وذاكرته لا تزال نقية وطازجة، وتواصله مع العالم الخارجي أكثر مرونة. 
 
يمرّ زياد في كتابه الأخير هذا، على البعد الطائفي في مسار بناء نظام الأسد لمؤسساته الأمنية والعسكرية والقطاع العام. وفي هذا المرور أيضاً، أهمية كبيرة لفهم النقمة التي ينظر فيها الكثير من "العلويين" في ذاكرتهم الجمعية لأبناء المدن الكبرى "السنّة". "شهدت سوريا عملية تحويل "الجماعة العلوية" إلى طائفة سياسية عبر خطاب يربط "الديني" بـ "السياسي" وعبر تأسيس جمعيات تعبئة دينية مثل "جمعية المرتضى" لجميل الأسد (شقيق الرئيس الراحل)، وعبر إحياء النقمة على المدينة بوصفها تاريخاً من الاستغلال لابناء الريف، إضافة إلى تنسيب ألوف شباب الطائفة إلى الجيش وأجهزة المخابرات". انطلاقاً من هذه الفكرة الجوهرية، يمكننا القول إن دفاع النظام عن نفسه هو دفاع طائفي أكثر من كونه سياسيا وإن حربه ضد الشعب والثورة هي حرب طائفية ضدّ "الأكثرية السنّية". ومنذ أن تم سحق الإخوان المسلمين بين عامي 1979 و1982، تمّ توريط الطائفة العلوية في "سحق السنّة". وما يحدث اليوم، ليس سوى امتداد لتلك الحرب الطائفية المستترة تحت شعارات علمانية الدولة. ما يجعل المرحلة الانتقالية أصعب وأشد تعقيداً. 
 
يتعرّض زياد ماجد أيضاً إلى غياب المجتمع السوري لسنوات طويلة في السجون وأقبية المخابرات والمنافي أو في عزلة فرضها انحسار التعامل الدولي مع المجتمع السوري خارج إطار شخص الأسد. لأنها ببساطة "سوريا الأسد" وكل السوريين هم نسخ متشابهة تعيش تحت ظلّه وفي مملكته. "سوريا كانت إذاً عشية العام 2011، عام انطلاق ثورتها، بلداً يبدو للخارج بلا ناس "عاديين". بلا دماء ودموع وسجون، وبلا مجتمع متنوّع ومتعدّد ومليء بالتناقضات". وتلك العزلة التي كان يعيشها السوري طوال عقود جعلته أيضاً معزولاً عن محيطه. وقد تكون إعادة الثقة بين السوريين من بين أهم إنجازات الثورة. إعادة بناء الشخصية السورية في مسارها الطبيعي وإعادة الحياة إلى العلاقات بين الناس بعيداً من الخوف والشكوك والحسابات. وأيضاً كان لها فضل في إبراز شريحة من السوريين كانت مغيبة ليس من قبل النظام فحسب بل من قبل النخبة "المقدسة" ذاتها. 

يقول زياد ماجد إن "السوريين استعادوا بعد انطلاق تظاهراتهم القدرة البديعة على التعبير". وربما لم يستعيدوها بقدر تمرّدهم على لغة "ثقافية" سادت لسنوات طويلة. فصارت العبارة أضيق وأعمق وأكثر إيجازاً ومباشرة. واللغة تطورت وتخففت من دلالاتها بفضل الأنترنت وجيل من الشباب يعبّر عن نفسه وعن أحلامه متحرّراً من الخطابة ولغة الإيحاء.

ومن الأفكار التي يوردها في كتابه، التي تبحث عميقاً في التبدل الذي أحدثته الثورة في الشخصية السورية وفي تبدّل الطقوس المتعارف عليها، فكرة التماهي في الموت من جهة والاحتفاء به كدلالة على استمرار الثورة والتصميم على اقتلاع عائلة الأسد من جهة أخرى. إذ لم يعد لكلّ ميت جنازة تردّد فيها خصاله. "إذ كيف لمئة شخص أردتهم السكاكين أو البراميل المتفجرة في ساعات معدودة أن يحتفى بهم واحداً واحداً في حين أنهم تماهوا وتوحّدوا في ساحة الموت وميعاده". 
 
"مع توقف العنف أو "إبرام الصلح"، يختفي القتلة مجهولو الوجوه بين الناس ولا يعرف كثرة خارج دوائرهم ما فعلوا. وإن نالت المحاكمات من بعضهم، يتحوّل الباقون إلى "مواطنين عاديين" أو يحملون في دواخلهم ذكريات وأمراضاً وأسراراً قد يطويها النسيان"، يقول زياد ماجد في طرحه للمخاوف على مستقبل سوريا على الصعيد الاجتماعي. وهو أمر يستحق التأمل والكثير من الجهود للإحاطة به. لتجنّب الانتقام والحقد والكراهية والعودة من جديد إلى الشك بالآخر كاحتمال قاتل بعد أن كان طوال عقود احتمال عنصر مخابرات واشٍ. 
 
كتاب يستحق القراءة عن ثورة "يتيمة" بالفعل، تخلّى عنها الأصدقاء بقدر التخلي الذي تعرضت له من الأعداء. ثورة لم تكتمل ولا تزال الدماء تنزف منها والعالم يتفرّج وربما يستمتع بالفرجة.