التاريخ: تموز ٢, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
القوس الإسلامي والديموقراطية - محمد الأشهب
أطبق القوس الإسلامي بنفوذه السياسي على منطقة الشمال الأفريقي من مصر إلى المغرب، مع فارق التجارب والخلفيات والمرجعيات. وربما أن أهم حدث يكمن في أن مصر التي تحد الفضاء المغاربي شرقاً، وتمثل جسر العبور المحوري نحو المشرق العربي استسلمت بدورها للتحول المفاجئ الذي صنعه الربيع العربي.
 
إلى ما قبل عقدين على الأقل، لم يكن ينظر إلى الحال الجزائرية في ضوء اكتساح جبهة الإنقاذ الإسلامية بمعزل عن خصوصيات تاريخية وثقافية كيفت التطورات في بلد المليون شهيد. وقتها كان المغاربة يفاخرون أنهم بمنأى عن عدوى التيارات الإسلامية. وكان التونسيون يسوقون خلطة التشدد الأمني والاستئصال السياسي كحل للمسألة الإسلامية، فيما كان نظام العقيد القذافي يبحر ضد التيار.
 
آنذاك لو استيقظ حسني مبارك على حلم مفجع، ينبه إلى أنه سيأتي يوم تنعطف فيه «أم الدنيا» نحو «الإخوان المسلمين»، لرد بأن ذلك سيكون نهاية العالم. غير أن النهاية كانت بالمرصاد لأنظمة ورموز وشخوص لا يحسنون قراءة الفنجان، وقد تحول إلى شوارع تغلي بالغضب والآمال. فالسياسة أيضاً ترتبط بحدس استقراء أحوال الطقس، إذ تتلبد السماوات وتختنق الأجواء.
 
قبل أن تهتدي المنطقة إلى المزاوجة بين السلطتين الروحية والسياسية، كان لا يزال هناك من يراهن على أن الأفكار والتصورات التي خرجت من رحم الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 في إمكانها أن تتحول إلى دروع سياسية لحماية الاستبداد والتسلط والإقطاع. ومن المفارقات الدالة أن الأنظمة التي انهارت تحت ضربات الوعي الجذري ظلت تغرف من نفس القاموس: «إما نحن وإما التطرف». قالها القذافي وهو يسأل عمن يكون أولئك الذين سحبوا البساط من تحت قدميه، ورددها مبارك وهو ينتظر النجدة من حلفاء محتملين في الحرب على التطرف. وعلقت بحلق بن علي وفي نفسه شيء من الأوهام.
 
لم تتغير نظرة العالم إلى الإرهاب عابر القارات. فالالتزام الكوني بهذا الصدد لا يزال مفعوله سارياً، طالما أن هناك من فكر بسطوة القتل وهدر أرواح الأبرياء. ما تغير فعلاً أن التوصيفات حيال الأمن والاستقرار والتعايش أصبحت مرتبطة بالشرعية الديموقراطية وليس نزوات الاستبداد واحتكار السلطة والثروة. وما كان يبشر به الحكام المنتهون في رهن الاستقرار بشخوصهم وأنماط حكمهم المتخلفة لم يكن أكثر من خداع، اكتشفته الشعوب قبل أن ينقلب عليه الرأي العام والدول المتنفذة.
 
والأكيد أنه كما صنفت هجمات 11 سبتمبر العالم إلى ما قبلها وما بعدها، فإن الربيع العربي رسم معالم تحولات لن تكون في صورة ما سبقها من مفاهيم وممارسات. فثمة أحداث تكون مثل مجرى النهر الذي لا يمكن السباحة في مائه مرتين. والأهم أن هاجس الخوف انهار نتيجة صدام انفجر في نهاية المطاف، فالشعوب لم تعد تخشى حكامها، ولكن الذين لا ينصتون إلى نبض الشارع هم الذين يخشون شعوبهم. وهذا التطور أسقط كافة الجدران وفي مقدمها أوهام المخاطر من أن الإسلاميين مرادفون للتطرف والمغالاة.
 
لم ينبت القوس الإسلامي من فراغ. فلا شيء يبدأ من عدم. ولكنه التراكم يختبر التجارب، وأقربها إلى اليقين أن انهيار الدولة المستبدة جاء على خلفية قطيعتها مع المجتمع، وكان حصرها في الحاكم وحاشيته دليلاً إضافياً على عزلتها. فيما الغالبية التي كانت صامتة ومهمشة جاهرت بأصواتها عقاباً أو اقتناعاً لتقول أنها موجودة ولن تصمت بعد اليوم. والظاهر أن الذين لم يتورعوا في فرض الوصاية على الشعوب، عبر تزوير الانتخابات وصنع الأحزاب الموالية واحتكار الإعلام والسيطرة على مراكز النفوذ الاقتصادي والمالي هم الذين يحصدون اليوم ما زرعوه بالأمس. ولا شيء أخطر من تداعيات الاستهتار بإرادة الشعوب، أي ما ينعته المغاربيون بـ «الحكرة» التي يتولد عنها الانفجار.
 
كان القرب الجغرافي للمنطقة المغاربية من أوروبا أحد العوامل التي جعلتها تتطلع إلى جوارها الشمالي، حيث ترعرعت تقاليد ديموقراطية راسخة. ومع أنها لم تفلح في اقتباس الظواهر الثقافية والسياسية بأكثر من البدلات وربطات العنق، في انتظار تبلور معالم نهضة شاملة فكرياً وسياسياً واقتصادياً، فإن الاحتكاك والتفاعل التاريخي أهلها لأن ترمي نظراتها بعيداً في اتجاه الضفة الأخرى.
 
ليس صحيحاً أن العمائم والجلابيب تناقض الانفتاح. فمن زمان نهل علماء وأدباء ومفكرون مغاربيون ومصريون من نبع المعرفة الإنسانية الحديثة. وكان منظرهم في الجامعات الأوروبية لافتاً، إذ يتحدثون لغات أجنبية ويؤدون الصلوات بلباس أصيل. لم يكن هؤلاء يثيرون أي مخاوف. فقط يتعين على أبنائهم وأحفادهم صون موروث الأصالة والتحديث والتعايش. وذاك أهم رهان يحول القوس الإسلامي إلى قوس ديموقراطي.