التاريخ: حزيران ٢٠, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
هواجس الطائف وسطحية منتقديه - سامر فرنجية
كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن ضرورة إعادة النظر في اتفاق الطائف وتعديله، وإن لم يكن واضحاً من يقوم بإعادة النظر هذه وما شكل التعديلات المقترحة. فمن التسريبات الإعلامية عن المثالثة إلى الكلام عن «الجمهورية الثالثة»، وصولاً إلى اقتراح أمين عام حزب الله إقامة «مؤتمر تأسيسي وطني»، يبدو كأننا دخلنا خلسةً مرحلة تفاوض جديدة على أسس النظام في لبنان.
 
يبدو توقيت هذا التفاوض، المتوقع أن يكون طويلاً ومريراً، غير حكيم. فالمنطقة تمرّ بمرحلة مضطربة، يعاد رسم معالمها، بخاصة مع انهيار الركن البعثي في دمشق، ما يجعل أي تفاوض في غاية الحساسية، كما يجعل أي نتيجة موقتة ومحكومة بإعادة نظر قريبة ستفرضها التطورات السورية. كما أن هذا التفاوض يتم ضمن طبقة سياسية هي ربّما من أسوأ ما شهده تاريخ لبنان المعاصر، تقارب مسألة الدستور كأنها ألاعيب انتخابية، تتطلب شطارة و «حربقة».
 
ليست هذه دعوة إلى التخفيف من أهمية إعادة النظر بأسس الحكم في لبنان، لا سيما أنها أصبحت مشلولة ومتخشّبة. بيد أن هذا الفشل ليس مسؤولية نظام الطائف، بوصفه مجموع القوانين التي تحكم السياسة، فحسب، بل هو مرتبط بنوعية الفضاء السياسي، المحلي والإقليمي، الذي يحيط بهذا النظام والتحديات التي يفرضها على أي نص أو اتفاقية. وبالتالي، فإن أي تعديل على الطائف أو تطوير له محكوم بضرورة الإجابة عن كيفية الحدّ من تأثيرات هذا الفضاء، وإلاّ فسيكون مصيره مجرد حبر على الورق.
 
أجاب الطائف عن تحديات الخروج من الحرب وصعوبة التعاطي مع مجتمع مقسوم من خلال «ضبابية» سمحت بإدخال بعض المرونة على النص، وإن كان ثمنها تعقيدات مكلفة غالباً. فالطائف ناهض على هاجسين، يحاول التلاعب عليهما، وذلك لعدم قدرته على تجاوزهما، وهما النقطتان اللتان يتم حالياً البحث في تعديلهما.
 
فقد شكّل خطر التقسيم الناتج من خوف الهيمنة الطائفية الهاجس الأول لاتفاقية الطائف. وأخذ الرد على هذا الهاجس شكل تكثيف العلاقات بين ممثلي الطوائف الثلاث الكبرى من خلال ربط القرار السياسي بين الرئاسات الثلاث ومن خلال توافقية مجلس الوزراء. كان ثمن تكثيف تلك العلاقات إعاقة فعالية الحكومة، كما يكتشف اليوم أعضاء «حكومة اللون الواحد»، ولكنه نسج شبكة من المصالح خففت من ميول الخروج من الدولة. وتبدو فعالية هذا الحل، المكلف مالياً، في الفارق بين الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله، أو بين الانتماء المشروط للدولة والاستعداد الدائم للخروج منها. فمن يريد تعديل هذا البند لضبط مشروطية الأول، عليه في البداية الإجابة عن كيفية ضبط خروج الثاني من الدولة.
 
أما هاجس الطائف الثاني، والمدخل الأساسي لدعوات التعديل الحالية، فمرتبط بمسألة التمثيل الطائفي، وعلاقتها بالوزن الشعبي والقدرة السياسية. فقد حقق الطائف، من خلال المناصفة، هدفين، وإن بطريقة تقريبية. فمن جهة، طمأن المسيحيين إلى أن سباق الديموغرافيا قد جُمّد، فاصلاً التمثيل السياسي عن الوزن السكاني، مؤمّناً للمسيحيين نصف المجلس النيابي. ومن جهة ثانية، قدّم للمسلمين اعترافاً بتفوقهم العددي والسياسي، من خلال إشراكهم في عملية اختيار بعض النواب المسيحيين.
 
لا شك في أن هذا الحل ضبابي ويفتقد الوضوح الذي يطالب به بعض دعاة الصفاء الطائفي. غير أن الخروج من ضبابية المناصفة إلى وضوح المثالثة، هو عملياً الانتقال إلى نوع من الفيدرالية وإعادة انطلاق السباق الديموغرافي. فالمثالثة تقتضي الذهاب نحو قوانين انتخابية لا تعكر صفاءها الطائفي الاختلاطات المناطقية، كما أنها تقتضي فك أية مشاركة في التعيينات أو المراكز. ولا عيب في الفيدرالية، غير أن لها مقتضيات وشروطاً وحدوداً، على المطالب بها أن يكون مدركاً لها (فلا فيدرالية ومقاومة، مثلاً).
 
مغزى عرض هاتين النقطتين ليس مجرّد الدفاع عن اتفاقية الطائف، بل للتنبيه الى أن ذلك النص أذكى وأعقد من منتقديه الحاليين، وأن أي تعديل له عليه الانطلاق من هواجسه، وليس التنكر لها.
 
لقد بقي النقاش عن إصلاح النظام السياسي في لبنان رهيناً لتوق إلى الوضوح السياسي، إما في شكل إلغاء الطائفية السياسية أو الفيدرالية، وهما احتمالان يقومان على إلغاء الهواجس المؤسسة للنظام السياسي. فغموض الطائف إشارة إلى حكمته وتاريخيته واعترافه بأن الهواجس تُدار وتُعقلن وتُطمأن، ولكنها لا تُلغى. أما التوق إلى الوضوح، فإشارة إلى سطحية في السياسة، سطحية تُلخص مفهوم السياسة لدى هواة حزب الله والتيار العوني.
 
إن أزمة الطائف ليست في النص أو في هواجسه، بل في هوية من يريدون أن يحسّنوه.
 
 
* كاتب لبناني