التاريخ: حزيران ١١, ٢٠١٢
المصدر: مجلة الحرية - فلسطين
الانتفاضات العربية ومأزق الديمقراطية - مسعود ضاهر

الديموقراطية بمعنى حكم الشعب للشعب وبالشعب نفسه مصطلح يعود بجذوره إلى العصر الذهبي للفكر اليوناني. لكن ثورات الغرب التحررية، بجناحيه الأوروبي والأميركي، استخدمته على نطاق واسع في التاريخ الحديث والمعاصر إلى أن اصبح ركيزة أساسية للفكر السياسي لعصر العولمة.

 

وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي سارعت كل من روسيا والصين إلى التخلي عن كل أشكال التشنج الايديولوجي السابق وتبنت سياسة براغماتية لضمان مصالحها في جميع دول العالم، ومنها الدول العربية. كما أن الانتفاضات العربية الراهنة تبحث عن طرق جديدة للتنمية السياسية بسمات عربية تختلف عن الحداثة المطبقة في الدول الغربية والآسيوية معا. وهي تحاول أن تقدم للعرب نموذجا متميزا في بناء حداثة سليمة لا تقود إلى التبعية للخارج. حداثة تبنى على الإنسان الحر الواعي والمزود بالعلوم العصرية، وعلى نشر التكنولوجيا المتطورة وتوطينها لزيادة الإنتاج الاقتصادي. وعليها أن تقدم الدليل القاطع على أن العناصر الإيجابية في الثقافة العربية العقلانية تشكل قاعدة صلبة لمواجهة سلبيات التحديث السريع الذي قاد إلى التبعية والاستيلاب. فغابت الديموقراطية ومعها الحداثة السليمة، وغابت التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة.

 

وبما أن الغرب يحتكر الديموقراطية السليمة لنفسه ويحجبها عن جميع دول الشرق، الأدنى منه أو الأقصى، فقد صنف غالبية الدول الآسيوية بأنها غير ديموقراطية. وصنف جميع الدول العربية بأنها مناهضة للديموقراطية، وسخر من إجراء الانتخابات الشعبية على النمط الغربي.

 

المشكلة إذاً ليست في الديموقراطية بل في غياب الديموقراطيين العرب على مستوى القاعدة الشعبية والنظام السياسي معا. وما زال الغرب يوجه الانتقادات الحادة إلى جميع الانتفاضات العربية لأنها فشلت في تبني الديموقراطية الغربية، علما بأن الغرب نفسه كان وراء المأزق الذي تعيشه تلك الانتفاضات، وهو يساند قوى سلطوية أو معارضة لم تمارس الحد الأدنى من الديموقراطية حتى في صفوف المعارضة، ناهيك برفضها الحوار، وادعائها غير المبرر تمثيل الجماهير المنتفضة وأحلامها المستقبلية.

 

دلالة ذلك أن مأزق الديموقراطية في الانتفاضات العربية الراهنة هو في غياب الممارسة الديموقراطية للقوى السلطوية والمعارضة. إذ لم تقدم الانتفاضات العربية التي أنجزت بعض مهماتها، سوى أشكال من الديموقراطية الشكلية عبر كثافة التصويت في صناديق الاقتراع بطريقة تذكر بتراث سلبي مستمر في هذا المجال منذ قيام الدولة الحديثة في العالم العربي.

 

هناك إذاً كلام على الديموقراطية من دون ديموقراطيين، ما جعل الديموقراطية، وفق التوصيف الغربي لها، حلما بعيد المنال من خلال الانتفاضات العربية، وذلك لأسباب موضوعية. فأعمال الشغب والاحتجاجات العنيفة التي شهدتها شوارع مصر وتونس وليبيا واليمن بعد انتصار انتفاضاتها أدت إلى سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى. وما زال الاحتكام إلى السلاح يتكرر في أكثر من مجتمع عربي منتفض. كما أن الأحزاب المسيطرة على الشارع العربي المنتفض هي ابعد ما تكون عن الديموقراطية، في الفكر والممارسة. وهي تستخدم الديموقراطية كذريعة لكسب الأصوات في الانتخابات، ولا تمارس الحد الأدنى من الديموقراطية داخل صفوفها.

 

مع ذلك، فالجميع بحاجة إلى الديموقراطية السليمة لأنها تمنع احتكار السلطة، وتساعد على ممارسة السياسة العقلانية، ومحاربة الفساد، وتجنب الاضطرابات الاجتماعية التي تعيق التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. فالديموقراطية السليمة هي مكون أساسي للثقافة الشعبية التي تفضي إلى قيام النظام الديموقراطي. وذلك يتطلب توافق المجتمع المدني على حماية المبادئ الأساسية للديموقراطية، ودعم سلطة القانون، واحترام خيارات الأغلبية في المجتمع، والحوار البناء مع المعارضة، وإقامة التوازن بين الدولة العادلة ومجتمع المعرفة.

 

لكن الأنظمة الديموقراطية ليست واحدة بسبب الظروف الموضوعية لكل دولة. كما أن الانتفاضات العربية لم تحظ بالوقت الكافي لتحقيق الديموقراطية السليمة التي يطمح إليها المواطن العربي. ويحتاج بناء الثقافة الديموقراطية إلى مجتمع مستقر تنفذ فيه خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية بصورة مستمرة.

 

نخلص إلى القول ان ممارسة الديموقراطية في ظل الانتفاضات العربية هي افضل السبل لتعزيز المسار الديموقراطي في الدول العربية المنتفضة. وفتحت الانتفاضات قنوات كثيرة للتعبير عن الرأي في عدد من الدول العربية، وإلزام السلطة باحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة. وأصبحت المساءلة القانونية ضرورية جدا لمحاربة الفاسدين. وساعدت وسائل الإعلام، وأدوات التواصل الجديدة، وشبكات المجتمع المدني، والحركات المناهضة للعنف وغيرها من الوسائل الاجتماعية في الضغط على بعض المسؤولين الفاسدين والمطالبة بإلقاء القبض عليهم، وحرمانهم من تمثيل الشعب أو تولي المناصب السياسية والإدارية الكبيرة في دولة الانتفاضة. وقادت الاحتجاجات الشعبية التي يطلقها بعض الناشطين على الانترنيت، والفيس بوك، والتويتر وغيرها إلى إيقاف مشاريع مشبوهة، ومنع المزيد من التنازلات للخارج، وتحصين المجتمع المدني من دعوات الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية.

 

إن تنمية الديموقراطية في الدول العربية المنتفضة يحتاج إلى معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. كما أن حل مشاكل الديموقراطية لا يمكن أن يكون بالقمع بل بممارسة المزيد من الديموقراطية، وإفساح المجال أمام الشعب المنتفض لكي يمارس حريته بوعي ذاتي ومسؤولية وطنية جامعة.

 

وغالبا ما يعطي توافق المنظمات الشعبية من دون تدخل من جانب السلطات الحاكمة ثمارا إيجابية في بناء الديموقراطية بصورة تدريجية. ويؤكد النزوع إلى التوافق الجماعي قدرة المجتمع العربي المنتفض على التمييز بين الديموقراطية السليمة والديموقراطية الشكلية.

 

لقد نجحت دول آسيوية، كاليابان والصين والهند ودول النمور الآسيوية، إلى جانب الدول الاسكندينافية وسويسرا، في بناء ديموقراطية بخصائص محلية لم تعتمد الاقتباس السهل لمقولات الآخرين. فتفاعلت مع الحداثة الغربية بدون أن تلتحق بها كما فعلت الدول العربية. وأسست لنماذج جديدة من الحداثة السليمة التي تؤسس اليوم لعولمة أكثر إنسانية من العولمة الهمجية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

 

ختاما، لا يمكن علاج الموروث السلبي للأنظمة الاستبدادية العربية بالصدمة السياسية عبر شعارات براقة حملتها الانتفاضات العربية وبقيت مجهولة النتائج لأنها سمحت فقط بالحد الأدنى من ممارسة الديموقراطية الشكلية عبر صناديق الاقتراع. لكن الديموقراطية ليست فقط اصواتا انتخابية، بل قوانين عادلة تنفذ، ومساءلة دائمة، ورقابة مستمرة، ومحاسبة صارمة، وتدريب الجماهير الشعبية على احترام الرأي الآخر، والتفاعل الإيجابي بين الشعب والسلطات الحاكمة، وتطبيق القانون والعدالة والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، واعتماد الكفاءة الشخصية في التوظيف وتولي المسؤولية، وبناء التنمية المستدامة. وعبر ممارسة الديموقراطية بوعي ومسؤولية تستطيع الانتفاضات العربية بناء ديموقراطية بخصائص محلية تساعد على كسب ثقة الشعب بالقوى المنتفضة، وتؤسس لمستقبل عربي أفضل.