التاريخ: حزيران ١١, ٢٠١٢
المصدر: nowlebanon.com
نقاش في الأصول - حازم صاغية

لا شكّ أنّ اللبنانيّين بحاجة إلى مؤتمر تأسيسيّ يؤسّس من صفر، لأنّنا في المرحلة الصفريّة من الإجماع في ما بيننا. لكنّ ما هو تأسيسيّ هو تعريفاً عودة إلى الأصول، أو ابتكار لأصول غير قائمة. فلنتكلّم إذاً في هذه الأخيرة.

 

فمن البديهيّ القول إنّ تركيبنا الطائفيّ يشكّل السبب العميق لاحترابنا الأهليّ كلّ بضع سنوات، أو لعيشنا شبه الدائم في احتمال الحرب الأهليّة وفي قلقه.

 

وما دام أنّ التركيب الطائفيّ هذا هو ما لا يد لنا فيه، حتّى إشعار آخر، ففي الوسع، نظريّاً على الأقلّ، التعاطي مع العوامل التي تغذّي هذا التركيب بالموادّ الانفجاريّة والعنفيّة وبالديمومة الزمنيّة.

وهناك، في هذا المجال، سبب كبير وآخر صغير: أمّا الأوّل فهو الاصطفاف حيال الصراعات الإقليميّة الدائرة، الشيء الذي تستخدمه الطوائف لتعزيز مواقعها الداخليّة، ناهيك عن توفيره أدوات التسلّح والدعم لها. والتتمّة المنطقيّة للتقدير هذا أنّ أيّاً من الطوائف والجماعات ينبغي ألاّ تكون مسلّحة، مهما كانت الذريعة المزعومة لحمل السلاح.

 

وأمّا السبب الصغير، والمكمّل، فيجسّده الموضوع الاجتماعيّ في علاقات الطوائف، أي "الإنماء" و"الغبن" و"الحرمان"، فضلاً عن تعبيراتها السياسيّة في "المشاركة" و"الحصص" و"الصلاحيّات".

 

لهذا فإنّ إرادة اللبنانيّين في الخروج من الحال اللعينة التي هم فيها، إذا توافرت تلك الإرادة حقّاً، تحملهم على أن يواجهوا، من دون لفّ ودوران، هاتين المسألتين. فإن لم ينجح بتّهما في تفادي النزاع، أمكنه التغلّب على حدّته وتقليص أكلافه كثيراً.

 

ومواجهة المسألة الأولى لا تكون أصليّة ولا جدّيّة، بعد كلّ ما عشناه وجرّبناه، إن لم تُطرح على الطاولة مسألة الحياد بالمعنى النمسويّ للكلمة: أي ذاك الذي يقتصر على السلاح والتسلّح من دون أن يطال الاقتصاد والثقافة ومستويات الحياة الأخرى. فالنمسويّون، إبّان الحرب الباردة، نجحوا في إبقاء بلدهم حياديّاً، من حيث الامتناع عن التسلّح أو حشد الجنود والعتاد في أرضهم المجاورة لبلدان الكتلة الشرقيّة، تماماً مثلما نجحوا في توثيق اندماجهم الاقتصاديّ والثقافيّ بالبلدان الغربيّة، لا سيّما منها تلك الأعضاء في حلف الأطلسيّ.

 

وبدورها فإنّ مواجهة المسألة الثانية تتطلّب نظرة أكثر انفتاحاً على الأشكال اللامركزيّة في بناء السلطة وتسيير أمر المناطق والجماعات. فإذا كانت المركزيّة مرشّحة، في وجه الإجمال، لأن تحمل بذور القمع والاستبداد في ذاتها، فإنّ بذورها هذه سوف تُثمر وتُخصب في البلدان التي تنطوي على خلافات واختلافات بين المناطق والجماعات، حيث تحتضن كلّ منها ثقافة فرعيّة قائمة بذاتها.

وقد يبدو لكثيرين أنّ خيارات كهذه تفضي إلى تكبّد أكلاف ضخمة. لكنْ من قال إنّ السلام يأتي مجّاناً وبلا أكلاف.

 

واقع الأمر أنّ كلّ ما يُبذل للوصول إلى درجة معقولة من السلام الأهليّ يُعتبر رخيص الكلفة. هذا إذا شئنا أن نتحدّث في الأصول ولا نتسلّى بالفروع التي لا تلبث أن تتسلّى دمويّاً فينا.