نعم، هي ليست مجرد "رمانة" وإنما قلوب ملآنة ومفعمة بشتى أسباب التململ والقنوط والإحباط، ذلك هو التفسير المنطقي لرد الفعل الغاضب الهائل والصاخب الذي تفجر مطلع الأسبوع الجاري في شوارع مصر وميادينها عقب النطق بالاحكام في قضية مبارك وولديه وثلة من أركان دولته الأمنية.
فعلى رغم أن هذه الاحكام اتت في صلبها ما يكفي من أسباب عدم الرضا ودواعي الصدمة والغضب إذ بدت كأنها تضحي برأس النظام القديم لتحفظ باقي كيانه وتسبغ عليه البراءة من دم الشهداء، إلا أن ما نطق به القاضي رئيس المحكمة لا يقوى وحده على تفسير انطلاق كل هذا الشلال البشري العارم في مشهد بدا كأنه يستعيد ملامح المشهد الافتتاحي لثورة شتاء العام الماضي.
باختصار، سيكون خطأ فادحاً إذا تعامى البعض عن حقائق ساطعة واستصغر ما يجري حالياً واعتبره مجرد "أثر عابر" لصدمة جزئية يمكن علاجها بعيداً من السياسة بمسكنات موضعية مثل حرمان مبارك رغد العيش وفخامته في جناح ملكي بالمركز الطبي العالمي ونقله إلى مستشفى سجن طرة، أو إعلان نية النيابة العامة الطعن في الحكم أمام محكمة النقض وخلافه.
لقد تعبأت قلوب الناس، مدى سنة ونصف سنة، بأزمات واحتقانات ظل مسار العملية السياسية المعطوبة التي فرضها تحالف أو زواج المصلحة بين المجلس العسكري وجماعة "الإخوان"، ينتجها يوميا تقريبا حتى انتهت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الاولى بعد الثورة بخيارين تعتبرهما الكتلة الكبرى في المجتمع يتنافسان في السوء.
ولأنه - كما يقول أهل الفلسفة - ليست في الدنيا حقيقة أقوى وأنصع من الحقيقة القائمة فعلا، فإن نظرة واحدة على الشعارات والهتافات التي يشق بها مئات الألوف في ميدان التحرير حناجرهم كفيلة بتبديد وهم أن ما يجري الآن فورة غضب عارض سيتولى الزمن القصير تهدئتها بحيث يعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل إعلان الأحكام في قضية مبارك.
والحق أنه لا جدوى من تجاهل المعاني الراقدة في الشعارات والمطالب الواضحة التي ترفعها الجحافل المحتجة في الشوارع هذه الأيام، ومفادها أنه لا هدوء ولا استقرار ما لم تحل المعضلة الأصلية وإدخال تعديل سريع وجذري على مسار العملية السياسية، هذا التعديل سقفه واصل إلى حد الإلحاح على الرحيل الفوري للمجلس العسكري وإسناد مهماته الى مجلس رئاسي مدني. لكن الحد الأدنى الذي لا يبدو أي حل حقيقي للأزمة من دونه، هو إلغاء الانتخابات الرئاسية الحالية وإعادة إجرائها من جديد استنادا إلى ما شابها من خروقات قانونية ودستورية خطيرة شوهتها تماماً وأبقتها غير قادرة على كسب شرعية القبول العام بنتائجها.
|