التاريخ: أيار ٨, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لبنان: الإضرابات كبّدت الاقتصاد 15 مليون دولار وخفض الرواتب يزيد الفقر بين الموظفين 40%
سلوى بعلبكي
لم تدخل البلاد في فوضى الاضرابات والاحتجاجات كما هو حاصل حاليا، الا عندما وصل سكين التقشف الى رواتب الموظفين ومتقاعدي القطاع العام والمؤسسات العامة. فالدولة التي دخلت الاصلاح من الشباك الضيق، تغاضت عن ابواب اكثر ملاءمة للمساهمة في خفض العجز من اقتطاع نسب معينة من الرواتب، بما يبعد البلبلة والاعتراض الذي فاض اخيرا عند النقابات والقطاعات المستهدفة. ففي ازمات مماثلة، وعند ضيق ذات اليد والحاجة الى زيادة الإيرادات، تلجأ معظم الدول الى قاعدة علمية عادلة متبعة في اقوى اقتصادات العالم، وهي الاخذ من المقتدر لدعم الاقل قدرة، لكن حكومتنا آثرت ان تضع نفسها في مواجهة انفجار شعبي محتمل نتيجة استسهالها تسويق قرارات غير شعبية يمكن ان تدخل البلاد في دوامة من المحاذير الامنية والاقتصادية والمالية.

الاحتجاجات الحاصلة حاليا، أثرت على حركة الاسواق المالية والاقتصادية وكبّدت الاقتصاد خسائر لم يتم تقديرها رسميا حتى الآن، إلا أن الخبير الاقتصادي جاد شعبان قدرها بنحو 15 مليون دولار في كل القطاعات، اضافة الى خسائر الإيرادات الجمركية والضرائب، مشيرا في هذا السياق الى الخسائر التي يتكبدها مرفأ بيروت، وتقدر بما بين مليونين و3 ملايين دولار يوميا، مع ما يرتبه ذلك من تأخير في تسليم البضائع، بما يمكن ان يؤدي الى أزمة حقيقية في توافر المحروقات والقمح وغيرها، اذا استمر الاضراب مدة أطول.

ولا تتوقف الانعكاسات السلبية عند هذا الحد، فحركة الاضرابات تؤثر على الجو الاستثماري العام، بدليل أنه "ما إن أعلن عن توقف بورصة بيروت حتى دب الهلع بين المواطنين، وهو ما ترجم بسحب أموال من المصارف. وهذا الامر ينسحب على المستثمرين الاجانب الذين يراقبون اي اهتزاز محلي، وخصوصا في السوق النقدية والمالية، إذا البلد كله متوقف على الثقة والامان".

وفيما انفرج مبدئيا إضراب موظفي مصرف لبنان، يتخوف شعبان من العودة الى الاحتجاج الاسبوع المقبل، "خصوصا أن كل العمليات المصرفية بين المصارف والمقاصة سيتم تعليقها بما يؤدي الى أزمة سيولة، وتاليا أزمة في تداول الشيكات". وإذا كانت الملاءة المصرفية قد جنبت البلاد الدخول في أزمة سيولة، إلا أنه من غير المقبول، في رأي شعبان، أن يبقى مصرف لبنان معطلا لكونه مرفقا عاما حيويا وأساسيا.

ثمة حلول كثيرة كان يفترض بالمسؤولين القيام بها، بدل استسهال اللجوء الى الحلقة الاضعف في الموازنة، إذ يلفت شعبان الى ضرورة أن تذهب الموازنة مباشرة الى مكامن الهدر، "وإذا كان من الصعب ضبط مكامن الهدر الكبيرة نظرا الى المحاصصة والغطاء السياسي على بعض القطاعات، فعليهم أن يبدأوا بالمصاريف غير المجدية في الوزارات (سفر، هواتف خليوية). كما يمكن التفاوض مع المصارف بغية خفض الفوائد على خدمة الدين لتصبح 1% بدل 5%، وبعد سنتين نبدأ بالاصلاحات الفعلية. ولكن أن نبدأ بالموظفين فهذا ضرب من الجنون". وإذ يؤكد أن غالبية هؤلاء دخلوا مؤسسات الدولة ومرافقها باعتبار أن لا فرص عمل، وإن كان معظمهم دخل "تنفيعة"، يؤكد أن خفض %10 من رواتب القطاع العام سيزيد نسبة الفقر بين موظفي القطاع العام وعائلاتهم %40، وغالبيتهم سيصبحون تحت خط الفقر".

ولكن السؤال: كم توفر الدولة إذا تم خفض الرواتب بين 5 و%10؟ يؤكد شعبان أن "نسبة الوفر لن تصل الى 600 مليون دولار، فيما إذا تم استبدال الدين العام بدين أرخص فإنه سيؤدي الى وفر يعادل الـ3 مليارات دولار، علما أن هذا الاجراء سيؤثر على نسبة ربحية المصارف بنسبة قليلة تعادل الـ200 مليون دولار، بينما يجني القطاع أرباحا سنوية صافية تعادل الـ3 مليارات دولار". ويمكن المصارف المساهمة في خفض العجز بطريقة غير مباشرة وفق ما يقول شعبان عبر "توفير القروض للمؤسسات والشركات بفوائد مخفضة، بما سيؤدي الى تحريك الاسواق وتاليا الى زيادة ايرادات الـ TVA والرسوم الجمركية".

الأوضاع في رأي وزير المال السابق جورج قرم تنحو الى المجهول، إذ إن الامر لا يتوقف عند الاضرابات، "فلبنان دخل منذ فترة في حالة انكماشية كبيرة لم يشهدها في تاريخه الحديث، وهذا لا يمكن معالجته بمزيد من التقشف وزيادة الفوائد". ويؤكد أن خفض رواتب الموظفين "يجب ألا يكون الاولوية، إذ عليهم أن يبدأوا بالتركيز على كبار القوم والاغنياء عبر فرض ضريبة موحدة على الدخل وليس كما هو حاصل حاليا، اي ضرائب نوعية".

أما الخبير الاقتصادي ايلي يشوعي، فيرى أن "الحكومة ذهبت الى المكان الخطأ عندما قررت خفض رواتب القطاع العام، فيما هناك أماكن أهم لتحصيل الحقوق المهدورة للدولة، والحل في رأيه يكون باعتماد اللامركزية الادارية والمالية، ونقل إدارة الخدمات بسلاسة الى القطاع الخاص، اضافة الى اعتماد الفوائد المخفضة.

وإذا كانت القطاعات التي شملها الاضراب أثرت على حياة المواطنين اليومية، فإن إضراب موظّفي مصرف لبنان "أدى الى اكتشاف المواطن حيوية عمل المصرف وتداخل عملياته في حياته اليومية بغضّ النظر عن مهنته وعمله ومركز إقامته"، وفق كبير الاقتصاديين ورئيس مديرية البحوث والتحاليل الاقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس نسيب غبريل.

وفيما يؤكد غبريل "أهمية عمل مصرف لبنان كمؤسسة عامة حيوية للاقتصاد ولتمويل التجارة الخارجية وفي عمليات التحويل وفي العجلة الاقتصادية عموما"، يشير في المقابل الى أن ثمة الكثير من المؤسسات والهيئات العامة، "لا يشعر المواطن بأي فارق إن توقفت عن العمل"، مشيرا في هذا السياق الى أن لجنة الاقتصاد والتجارة أوصت منذ الـ2017 بدمج (أو إغلاق) 86 هيئة ومؤسسة وصندوقا وإدارة رديفة للإدارة المركزية لا عمل حقيقيّ لموظّفيها وعمّالها، آملا أن "تتضمّن موازنة الـ2019 قرارا جريئا كهذا وضروريا من ضمن هدف ترشيق النفقات العامة".