التاريخ: أيار ٦, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
مسيحيو السودان في الخطوط الأمامية للحراك
«الهلال مع الصليب... السودان اليوم بيطيب» أحد شعارات ميدان الاعتصام
القاهرة: عمرو التهامي
على مدى أكثر من أربعة عقود كاملة، كرّس المحامي القبطي السوداني نبيل أديب (76 عاماً) حياته «للدفاع عن المُهمشين» من دون اعتبار لمعتقداتهم الدينية أو انتماءاتهم السياسية، مدفوعاً «بقيم الحرية والعدالة التي ورثتها عن والده» الطبيب ذي الأصول المصرية الذي انتقل إلى السودان في القرن الثامن عشر.

وتحوّل مكتب أديب القانوني الواقع بحي العمارات في ولاية الخرطوم، لحاضنة للحقوقيين لسنوات، وملاذاً يلجأون إليه من أجل الدفاع عنهم أمام المحاكم، إلى جانب اضطلاعه بتوثيق انتهاكات حقوقية وتقديم المساعدة القانونية لضحايا سوء المعاملة الحكومية والدفاع عن الأقليات.

ويقول أديب لـ«الشرق الأوسط» إن «كل ما نحتاجه هو أن نُصِر على الانتصار للحق، فالدفاع عن المُظلومين، من داخل بلدي، هو شرف واختيار سياسي وإنساني كُنت واعياً بتبعاته ومرتضياً به حتى النهاية التي شاءت أن أشهد في نهاية حياتي أعظم حدث فيها وهو الثورة».

ورغم «العلاقات الطيبة» بين مسيحيي السودان ومسلميه، بحسب وصف أديب، فإن النظام (الحركة الإسلامية) بقيادة عمر البشير جعل المسيحيين هدفاً لحملات متكررة، تنوعت وسائلها بين هجوم الإعلام الحكومي عليهم، ونعتهم بأوصاف تحريضية، ومصادرة ممتلكات بعضهم بزعم «الدعوة لأفكار دينية منحرفة تخالف الإسلام»، ونقل رسائل إلى كثيرين منهم بطريقة غير مباشرة للهجرة.

ويوضح أديب: «علاقاتنا مع المواطنين أكثر من ممتازة. لم نتعرض لعنف أهلي، أو استهداف من جانبهم على أساس الهوية. كنا مجتمعاً واحداً، يدعمنا الكثيرون منهم في مطالبنا خصوصاً تجاه سياسة البشير في التمييز الطائفي والعرقي».

ولم يُكرس أديب عمله للدفاع عن الأقباط فحسب، بل دافع أمام المحاكم عن كثيرين استهدفهم النظام، بينهم رئيس «حزب الأمة» المعارض الصادق المهدي، ورئيس «حزب المؤتمر» ذي التوجه القومي إبراهيم الشيخ، والمُرشح الحالي من جانب «قوى إعلان الحرية والتغيير» لمنصب رئيس الوزراء مضوي إبراهيم، إضافة إلى صحافيين معارضين كثيرين عاقبهم النظام السابق بالسجن أو الاعتقال، بينهم الصحافية لبنى أحمد حسين التي اعتقلت بسبب ارتدائها بنطالاً.

وينتمي أديب إلى مسيحيي السودان من ذي الأصول المصرية، وهم في أوضاع ميسورة ويعمل أغلبهم في التجارة أو في مهن الطب والهندسة والمحاماة، بينما تزداد هذه الصعوبات عند القطاع الغالب من مسيحيي السودان الآخرين لظروفهم الاقتصادية «شديدة السوء».

وبين هؤلاء رأفت سمير (42 عاماً)، وهو رئيس لمجلس الطائفة الإنجيلية. وتكرر اعتقاله مرات كثيرة، كان آخرها قبل عام ونصف العام، وأبلغته أجهزة الأمن السودانية بعدم رغبتها في بقائه داخل البلد. ويقول رأفت لـ«الشرق الأوسط»: «قالوا لي: مش عاوزين أقباط تاني في البلد، وحاول تخلي الناس تسافر برة».

كان شقيق رأفت من بين هؤلاء الذين غادروا البلاد قسراً قبل خمسة أعوام، بعدما صودرت ممتلكاته. ويقول: «نظام البشير اتبع سياسة اعتقال عشوائي وتهديد بسحب الجنسية ومصادرة الممتلكات». وأشار إلى أن هاتفه كان لا تنقطع عنه «رسائل التهديد»، أو التحريض على الهجرة. ويتذكر مضمون واحدة من تلك الرسائل التي «تلقاها المسيحيون الإنجيليون كافة يوم انفصال الجنوب»، وكان نصها أن «المساحة الجديدة للسودان يسكنها نحو 97 في المائة من المسلمين، لذلك ما عليكم سوى الرحيل إلى الخارج».

ومع ذلك تظل فكرة الهجرة أو ترك البلد «مستحيلة» بالنسبة إلى أديب الذي اعتقل واقتُحم مكتبه أكثر من مرة. ويقول بصوت مشحون بالتأثر: «عمري ما أسيب البلد. هذه بلدي التي ولدت فيها، وسأدفن فيها إلى جانب أبي وجدي. لا يمكنني أن أعيش في غيرها. كان من السهل الحصول على جنسية أجنبية ورفضت، وما زلت مُصراً على عدم القبول بها».

شكلت المظالم الواقعة على عموم السودانيين دافعاً أساسياً لسمير وآلاف غيره للنزول في مسيرات احتجاجية تُطالب بإسقاط نظام البشير، وتقدم الخطوط الأمامية في الانتفاضة الأخيرة سعياً إلى حكم يلتزم بمعايير العدل والمساواة والنزاهة.

ويوضح أن «المشاركة في الثورة كانت وسيلة الأقباط لتحرير أنفسهم من هذا الاضطهاد المتكرر من جانب نظام البشير الحاكم، خصوصاً العنصر النسائي الذي شكل الفئة الغالبة بين المشاركين، كما لعبت بعضهن أدواراً في التحضير له».

الشابة السودانية سمر بولس واحدة من هؤلاء اللاتي انخرطن في الشأن العام السياسي بصفاتهن الوطنية، حين أسست قبل ستة أعوام مع نشطاء سياسيين مسلمين حركة احتجاجية حملت اسم «شباب التغيير» للتوعية بمساوئ النظام المعزول، وفضح محاولات لتزوير الانتخابات الرئاسية لصالح البشير.

وتقول سمر التي انضمت لاحقاً إلى «تجمع المهنيين السودانيين»، إن «الهدف هو توعية الناس بمساوئ نظام البشير، وتحفيزهم للمُشاركة والنقاش في القضايا العامة السياسية». كانت الغاية الأساسية من هذا النشاط هي «الثورة على الفساد والظلم»، وفقاً لسمر التي توضح أنه «لا مشكلة عندنا مع رجل الشارع. كان النظام هو المحرض الرئيسي علينا، وسبب كل تلك السياسات الطائفية».

صمدت سمر كثيراً أمام انفعالات زوجها في ضوء نشاطها السياسي «خوفاً على حياتي وحياة أولادي»، بعدما تلقت تهديدات بالتصفية مرات عدة إذا استمر عملها ضد حُكم البشير. وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «كانت المجموعة تلتقي في أماكن غير معروفة، ونستخدم هواتف محمولة بدائية بأرقام جديدة للتواصل، منعاً لاختراقها من جانب أجهزة الأمن التي كانت تراقبنا».

وتشدد على أن مشاركة المسيحيين في الانتفاضة الأخيرة «كانت بصفتهم مواطنين يشتركون مع المسلمين في قضاياهم تجاه هذا النظام من غياب العدل وانتشار الفساد والاستبداد السياسي». وتستشهد على ذلك بعدم وجود شعارات تحمل مطلباً خاصاً للأقباط، وكذلك الهتافات التي رددوها في ميادين الاعتصام.

«الهلال مع الصليب... السودان اليوم بيطيب»، هو أحد تلك الهتافات التي صدحت بها حناجر المحتجين في ميادين الاعتصام، حين اصطفت مجموعة من المسيحيين لحماية المسلمين من أشعة الشمس الحارقة وهم يصلون. تقول سمر: «مشينا نقف مع ثورتنا ونغطي على إخوتنا وهم بيصلوا، قاموا اخترعوا لنا هذا الهتاف. والله بكينا».

وأظهرت عشرات المقاطع المصورة من ميدان الاعتصام مسيحيي السودان يرنّمون في الاعتصامات أو يرفعون الصلوات هناك. كما دعا «تجمع المهنيين السودانيين»، قبل أسبوعين، مسيحيي السودان، للمشاركة في إقامة صلاة جماعية في الاعتصام.

ويغيب أي إحصاء رسمي لعدد المسيحيين السودانيين، بينما يُرجح أديب أن يُشكل عددهم في الداخل فقط نسبة 5 في المائة من إجمالي عدد السكان الحاليين.