التاريخ: آذار ٧, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
باريس: المؤسسات الجزائرية صلبة ونستبعد السيناريو التونسي
باريس: ميشال أبو نجم
تبدو باريس مطمئنة لتطور الأوضاع في الجزائر التي تربطها بها أواصر وصفتها مصادر دبلوماسية رفيع المستوى بـ«الحميمية». ولا تنتاب السلطات الفرنسية، وفق المصادر المشار إليها، المخاوف من التطورات الحاصلة في هذا البلد بالنظر لمجموعة من العوامل، أولها أن «المؤسسات الجزائرية صلبة وثابتة» وبالتالي «ليست هناك مخاوف من حصول تجاوزات أو انهيار السلطات وبنى الدولة». وقطعاً ككل سيناريو كارثي، تسارع الأوساط الفرنسية إلى التأكيد أن «السيناريو التونسي الذي حصل عام 2011 (سقوط النظام وهروب الرئيس زين الدين بن علي) غير متوقّع» في الجزائر.

وفي باب الإيجابيات، تلحظ باريس أن المظاهرات التي حصلت حتى اليوم كانت كلها تحت السيطرة، كما أنها تمت بهدوء، ومن غير عنف، ما يحفّز باريس على التعبير عن ثقتها، بـ«قدرة السلطات الجزائرية والجزائريين على العثور على حلول».

أما الأمر الآخر الذي تتوقف عنده العاصمة الفرنسية، فهو أن السلطات «ردّت على المظاهرات بعرض سياسي» قدم يوم الأحد الماضي، عقب تقديم الرئيس بوتفليقة ترشيحه رسمياً، وقوامه الدعوة إلى مؤتمر وطني وتعديل الدستور ومحاربة الفساد وتوزيع عادل للثروة وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة لن يترشح لها بوتفيلقة. وتضيف هذه المصادر أن «عرض السلطات يمكن أن يتطور» على ضوء ردود فعل الشارع والمجتمع المدني والأحزاب.

بيد أن مفتاح الموقف الفرنسي مما هو حاصل في الجزائر عرضه بوضوح، بعد ظهر أمس، وزير الخارجية جان إيف لودريان في البرلمان، حيث شدد على أهمية «ترك المسار الانتخابي يأخذ مجراه»، أي من غير تدخّل خارجي. لكن هذا الموقف لا يحول دون أن تكون باريس «بالغة التيقظ» لما يحصل على الضفة الأخرى من المتوسط.

وشرح لودريان أن بلاده تعمل بهدي ثلاثة مبادئ، أولها احترام واقع أن الجزائر «بلد ذو سيادة، وأنه يعود للشعب الجزائري، وله وحده أن يختار قادته ويحدد مستقبله وطموحاته، ما يعني توافر الشفافية وحرية الانتخاب (في الاستحقاق المقبل)». والمبدأ الثاني التشديد على أن الجزائر بلد صديق وعلاقات فرنسا به «متنوعة»، حيث إن «ما يحصل في الجزائر له ترجيعاته» في فرنسا.

ووفق المصادر الفرنسية فإن كل فرنسي من عشرة له صلة بشكل أو بآخر بالجزائر. أما المبدأ الثالث، فهو أن باريس تعتبر الجزائر «بلداً مركزياً في أفريقيا والمتوسط ولذا فإن أمنه واستقراره أساسيان» لما لهما من تأثير على الأوضاع في ليبيا وشمال أفريقيا وبلدان الساحل، وأيضاً على الهجرات. لكن لا يبدو أن لباريس تخوفات جدية من المسألة الأخيرة، لأن لودريان، أشار إلى أن وضع الهجرات «باتجاه أوروبا مقارنة مع ليبيا» تحت السيطرة والسلطات تولي هذه المسألة أهمية خاصة».

وخلص الوزير الفرنسي إلى أن الجزائر تجتاز «لحظة مهمة من تاريخها»، ولذا، فإنه يتعين عليها أن «تعثر على المخارج من أزمتها الراهنة» وأن يتوافر لها «الدفع الكافي لمواجهة التحديات القادمة وللاستجابة للتطلعات العميقة للجزائريين». والمدخل لذلك، وفق باريس، وفي سياق الأوضاع الراهنة، هو أن تحصل الانتخابات «ضمن ظروف جيدة توافر فيها الشفافية والصفاء المطلوبين».

صحيح أن فرنسا ترفض التدخل في شؤون الجزائر الداخلية، بسبب العلاقات المعقدة مع المستعمرة السابقة التي استقلَّت عنها في شهر يوليو (تموز) من عام 1962. ومن المعلوم أن كل كلام يصدر عن فرنسا له ترجيعاته في الجزائر حيث التنديد بـ«الحزب الفرنسي» عملة رائجة. ولذا، فإن باريس مضطرة، رغم اتهامها بـ«الازدواجية»، في التعاطي بكثير من الحذر مع الوضع في الجزائر، مقارنة بتعاطيهاً مثلا مع تطور الأوضاع في فنزويلا، حيث لم تتردد في الاعتراف برئيس البرلمان غوايدو رئيساً لفنزويلا للمرحلة الانتقالية.

وبنظر المصادر الفرنسية، فإن أي موقف آخر يمكن اعتباره «غير مسؤول». من هنا، فإن باريس تحرص من جهة على التأكيد على صداقتها للجزائر وعلى أهمية الأمن والاستقرار فيها والتعبير عن ثقتها بقدرة الجزائريين على إيجاد الحلول لمشكلاتهم. كذلك، فإن الدبلوماسية الفرنسية تأخذ وعود الرئيس بوتفليقة بعين الاعتبار، وتنظر إليها على أنها رد على المطالب المرفوعة... لكنها، في الوقت عينه، لا تتردد في القول إن المعروض «لا يكفي الجزائريين»، وتبدو حريصة على إرسال إشارات لها أهميتها إلى السلطات لجهة التأكيد على ضرورة «الاستجابة لمطالب الشعب الجزائري وطموحاته في التغيير والتجديد»، والتذكير بضرورة توافر الشفافية في الانتخابات... وفي المحصلة، فإنها تدعو لـ«ترك اللعبة السياسية تأخذ مجراها»، ولا تستبعد أن تحصل تعديلات على طروحات السلطة ما قد يمكّن من الوصول إلى «حلول».

خلاصة الأمر أن فرنسا غير متخوفة على استقرار الجزائر، ولا من العودة إلى سنوات العنف في التسعينات، ولا من تهافت بنى الدولة، وهي تدعو إلى تجنب «استباق كارثة لن تحصل». كذلك فإنها تتمنى دوام الأمن والاستقرار للجزائر وتوافر التنمية، وتعول على قدرة الجزائريين على استخدام الحوار وسيلة لبلورة حلول. لكن هل سيكون الجزائريون، في الأسابيع والأشهر المقبلة، على مستوى التحدي ويعرفون كيف التعامل مع هذه «اللحظة التاريخية»؟ هذا هو السؤال الذي جوابه في المقبل من الأيام.