التاريخ: آذار ١١, ٢٠١٢
المصدر: ملحق النهار الثقافي
لا يزال الطريق طويلاً - إياد العبدالله

واقعتان حصلتا في مدينة دمشق في شهري شباط وآذار 2011، تعكسان المضمون الحقيقي الذي سيميز قيامة السوريين في آذار من العام نفسه. الأولى حصلت يوم 17 شباط، الثانية يوم 16 آذار.

 

على إثر قيام عناصر من شرطة المرور بضرب أحد الشبان في حي الحريقة الدمشقي، يوم 17 شباط، تجمع عشرات الشبان لنجدته، والمطالبة بالإفراج عنه. الهتاف الرئيسي الذي ردده هؤلاء الشبان كان "الشعب السوري ما بينذلّ"! يوم 16 آذار، حصل تجمع لأهالٍ وناشطين، أمام مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. قوبل هذا التجمع السلمي بوحشية وعنف لم يفرق بين كبير وصغير، وتم اعتقال العديد منهم على أيدي رجال الأمن السوري. الدلالة التي يمكن استخلاصها من هاتين الواقعتين، تجد في "الكرامة والحرية" عنواناً لها. لن تتأخر حناجر السوريين لتؤكد هذا العنوان. ففي درعا، حيث انطلقت الشرارة الأولى للثورة السورية، كان الهتاف الذي أطلقه المتظاهرون: "الشعب السوري مو جوعان"! رداً على الإجراءات التي بادرت إليها السلطة لمواجهة الاحتجاجات في البداية، كزيادة الرواتب مثلاً؛ والتي أظهرت احتقاراً وتجاهلاً سافراً لحقيقة قيامة السوريين. 


شكّل ارتباط الثورة السورية بهذه المضامين صفعة للنظام، لأنها ستكون المدخل إلى تفكيك شرعيته التي عمل على تكريسها عبر احتكار قيم الكرامة والحرية والوطنية. فسوريا الحرة والكريمة والوطن، على مدار عقود، هي ليست شيئاً آخر سوى "سوريا الأسد". فـ "الأسد" هنا، هو هوية سوريا الحديثة، خبرها الذي أعطاها حضوراً ومعنى، محمولها الذي ما إن استغرقت فيه حتى انتقلت من طور الهيولى إلى طور الهوية والوجود، من الضعف إلى القوة، من لعبة بين الأمم والدول إلى حصن تتكسر على أعتابه جميع المؤامرات. وفق هذا التصور، فإن سوريا الوطن لا يمكن أن تكون ديموقراطية، لأن الديموقراطية علامة على التشتت والضعف، وما على المجتمع سوى نكران ذاته والترفع عن مصالحه والالتحاق بالنظام حتى يغدو وطنياً. فالمجتمع المحكوم عليه بالوطنية، هو ذلك المجتمع الذي لا شخصية له ولا استقلالية.


لم يتزحزح النظام السوري في مواجهته لانتفاضة السوريين عن مألوف خطابه وعاداته. فالحديث عن المؤامرة ضد سوريا، كان حاضراً منذ اللحظة الأولى. أدوات هذه المؤامرة كانت جماعات سلفية في البداية، ليتطور الأمر إلى عصابات مسلحة لا هوية لها، تحرّكها لذة القتل الذي يهدف في النهاية إلى بث الفوضى والدمار في أنحاء البلاد. على الأرض، الحل الأمني كان خيار السلطة الوحيد في مواجهة انتفاضة السوريين. الآن، وبعد مرور عام على قيام هذه الانتفاضة وحيث لم يستطع النظام القضاء عليها، ولا استطاعت هي تحقيق أهدافها التي لا إمكان لتحقيقها إلا عبر إسقاط النظام؛ نستطيع أن نؤكد أن توازناً في القوى بين الاثنين هو ما يميز واقع الحال. بعد مرور عام على اندلاع الثورة، ثمة معادلة هي على الشكل الآتي: النظام لا يزال متماسكاً لكنه غدا ضعيفاً، ومن ناحية أخرى، فإن إرادة الثوار على الأرض لا تزال قوية ومتماسكة، إلا أن المعارضة التي يفترض أن تكون الغطاء السياسي للثورة، ضعيفة وهشة ومبعثرة.


عوامل عدة تكاتفت كان لها تأثير مزدوج، فهي من ناحية سهّلت للنظام الاستمرار في خياره الأمني في قمع الثورة السورية، ومن ناحية أخرى وقفت عائقاً أمام تطور الثورة وتحقيق أهدافها. منها الدعم الذي أظهرته مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية، ومعهما الجهاز الديبلوماسي، للنظام، وهو ما لم نشهده في الدول العربية التي عاشت ربيع إسقاط أنظمتها. وكذلك وجود قاعدة شعبية موالية للنظام، أو صامتة، غالبيتها من الأقليات الدينية والطائفية التي تعيش خوفاً وقلقاً على مستقبلها في حال سقوط النظام، ووقوف بورجوازية المدن الكبرى في حلب ودمشق معه، وهي التي استفادت من سياساته الاقتصادية التي أقرّها في السنوات الأخيرة، ما انعكس في تأخر انضمام هذه المدن إلى الثورة. لا تزال ماثلة حالة الاقتتال الأهلي والدماء التي سالت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، ما أدى إلى هجرة مئات الألوف من العراقيين، وتوزعهم في بلدان العالم، حيث كان نصيب سوريا منهم ما يفوق المليون. إن احتمال مصير مشابه في سوريا، هو مصدر قلق لدى قطاعات شعبية واقتصادية لا بأس بها من السوريين، وبدوره عمل النظام عبر إعلامه و"مثقفيه" على التلويح بمثل هذا المصير في حال سقوطه. وأيضاً، فإن حالة عدم الاستقرار التي تمر بها بعض دول الربيع العربي، ووصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر، والتوترات الطائفية التي حصلت في هذه الأخيرة بين مسلمين وأقباط، وتحول جماعات مسلحة في ليبيا إلى قوة لا تستطيع السياسة السيطرة عليها أو توجيهها...، هذه الأمور مجتمعة، تبعث هي الأخرى على القلق عند نخب وقطاعات سورية، ويلعب النظام عبر إعلامه ومثقفيه دوماً على تسليط الضوء عليها. دولياً، ثمة دعم واضح وصريح من إيران وروسيا والصين للنظام السوري. بالنسبة الى إيران، فهي تعلم تماماً أن سقوط حليفتها السوري سيكون كارثياً لها. فهو يعني عزلها وإبعادها عن أهم الملفات الحاسمة في الشرق الأوسط، كالصراع العربي ـ الإسرائيلي وعملية السلام، وخصوصاً أن تحالفها مع النظام السوري أتاح لها أن تصل إلى الحدود الإسرائيلية عبر دعمها لـ"حزب الله" اللبناني ووصولها إلى داخل الأراضي الفلسطينية من خلال حركة "حماس". بالنسبة الى روسيا، ثمة أسباب عدة وراء مواقفها الداعمة للنظام السوري، قد يكون من بينها ما هو معنوي يكمن في حساسية لا تزال موروثة من الحقبة السوفياتية تجاه الغرب الذي وسّع من نفوذه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى مناطق في أوروبا الشرقية كانت تعتبر مجالاً حيوياً لروسيا. ثمة حساسية روسية إزاء تركيا، الجارة المسلمة وحليفة الغرب. إذ إن سقوط النظام السوري يعني أن دوراً تركياً مميزاً سيكون في سوريا الجديدة، وخصوصاً أنها حاضنة للمجلس الوطني السوري، التنظيم الأكثر تمثيلاً ووزناً في المعارضة السورية، ولقيادة "الجيش السوري الحر"، وعلى علاقة وثيقة مع "الأخوان المسلمين" الذين يعتقد أن حظوظهم كبيرة في الوصول إلى السلطة في سوريا ما بعد سقوط النظام. وهذا ما لا ترتاح له روسيا، صاحبة التجربة المريرة في الشيشان. ثمة جانب اقتصادي أيضاً يكمن وراء موقف الروس وهو صفقات الأسلحة مع النظام السوري، وخصوصاً بعدما فقدت روسيا السوق الليبية.


على الجانب الآخر، الذي يستنكر على النظام أفعاله محاولاً تقديم الدعم للثورة السورية، ثمة ما يقال أيضاً. بالنسبة الى الجامعة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي (السعودية وقطر خصوصاً) بالإضافة إلى تركيا، فقد بان بشكل جلي أن الدور الذي يمكن أن يضطلع به هؤلاء محدود إلى حد كبير، وكل تطور في هذا الدور مرهون بتدخل دولي أكثر فاعلية في "المسألة السورية". إلا أن هذا الأخير يبدو محدوداً بدوره، فالولايات المتحدة تنأى بنفسها حتى الآن، عن القيام بمغامرة جديدة في الشرق الأوسط بعد فشلها في العراق، وخصوصاً أن الانتخابات الأميركية باتت على الأبواب. فرنسا أيضاً على أبواب انتخابات رئاسية تجعل ساركوزي شديد الحذر هو الآخر. إن ما نتج من قرارات في مؤتمر "أصدقاء سوريا" الذي عقد في العاصمة التونسية أخيراً، يعكس سقف التحرك الذي يستطيعه أو يرغبه هؤلاء.


ما سبق يجد كمالته في ذلك الأداء الهزيل للمعارضة السورية التي فشلت حتى الآن في أن تكون على مستوى وقائع الثورة السورية وتطوراتها. تدّعي "هيئة التنسيق الوطنية" في سوريا أن رؤيتها في مقاربة الحاضر السوري ومآلاته تنطلق من مبادئ تتعلق بصون الاستقلال والسيادة الوطنية، لتصل إلى ضرورة الحذر من أي تدخل دولي في الشأن السوري والتشكيك فيه، مقررةً أن القوى الذاتية للثورة قادرة على إسقاط النظام وبناء الدولة الديموقراطية. لكن هذه الهيئة التي تؤكد أهمية التعبئة الشعبية، فشلت فشلاً ذريعاً في أن يكون لها موطئ قدم يعتدّ به على الأرض. إضافة إلى أن تصورها هذا يتغافل عن مقدرة النظام على المناورة التي برع فيها على امتداد عام من عمر الثورة. في المقابل، كان أداء "المجلس الوطني السوري" محبطاً وقليل الفاعلية، على الرغم من إجماع غالبية الثوار على تمثيله لهم. أغلب أعضاء المجلس الوطني هم من الليبيراليين والإسلاميين، الذين ذهبوا إلى أن لا بديل من إسقاط النظام بأي وسيلة كانت، وإلا فإن البلاد ذاهبة إلى مصير قوامه الدمار والتفكك. أمام القمع المتصاعد للنظام، دعا المجلس الوطني إلى تدويل المسألة السورية، وتوفير ملاذات آمنة وصولاً إلى التدخل العسكري ودعم "الجيش الحر". بالطبع، لم يبلور المجلس وجهة نظر واضحة حول حدود التدويل والعسكرة وأخطارهما. هذا عدا التشرذم الواضح بين مكوّناته التي تتجلى في تصريحات أعضائه التي تصل إلى حد التناقض أحياناً.


لقد شهدت الأشهر الأخيرة من عمر الثورة، تراجع دور التنسيقيات التي كانت فاعلة على الأرض، من حيث إشرافها على نشاطات مختلفة كتنظيم التظاهر والدعوة إليه وإيجاد آليات الصمود أمام ردود فعل أجهزة النظام الأمنية. لقد تم استنزافها عبر حملات الاعتقال والملاحقة التي طالت كوادرها. بالإضافة إلى أن انتشار مزاج يدعو إلى مواجهة النظام بالسلاح وصعود نجم "الجيش السوري الحر" الذي أخذ على عاتقه هذه المهمة، أفسح المجال أمام تصدر الراديكاليين، وتراجع التنسيقيات التي كانت من إبداع الثورة في حقبتها السلمية.


إن تكاتف هذه الوقائع المذكورة أعلاه، ضاعف من فاتورة الألم وسهّل للنظام المضي في خياره الأمني والعسكري للقضاء على الثورة، وأشاع مناخاً من الإحباط والقلق عند ناشطين سوريين. إلا أن نقطة القوة في الثورة، هي أن النظام انتهى وسقط في أذهان كثير من السوريين. لقد أصبح جسماً غريباً يسعى الثوار لإزاحته. إن تبنّي ثوار الأرض علم الاستقلال، ينطوي على بعض الدلالات التي تؤكد هذا الطلاق النهائي مع النظام. إنه استعادة رمزية أراد من خلالها الثوار أن يضفوا على ثورتهم طابعاً تحررياً يحاكي حركات التحرر الوطني التي ناهضت الاستعمار الكولونيالي وسعت إلى تحرير البلاد منه.