التاريخ: كانون ثاني ١, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
مصر بين «اليمين الجماهيري» و«حزب الكنبة» - حسام عيتاني

تطالب نتائج الانتخابات المصرية بالمزيد من الدراسة. القول بانتصار «الإسلاميين» يفتقر الى الدقة وينزع نحو تبسيط يخفي حقيقة ما يعتمل داخل المجتمع المصري.
ثمة أنواع شتى من الإسلاميين الذين حققوا نتائج مهمة في الانتخابات. لكن المرجح ان ما يفرقهم أكبر مما يجمعهم. ليس على مستوى الخلاف بين «الإخوان المسلمين» والسلفيين الذين التقوا في ربع الساعة الأخير قبل الانتخابات، في حزب النور السلفي، بل بين أعضاء وممثلي الحزب المذكور الذين تكثر بينهم الرؤوس الطامحة الى الزعامة والتفرد، على عكس «الإخوان» أصحاب البنية التنظيمية المتينة.


ويمكن العثور على عوامل التفتت المقبل لحزب النور (الذي ظهر مبكراً ضعف الأسباب التي تجمع قياداته إلى بعضها)، في الطريقة التي أنشئ الحزب فيها وفي اسلوب اختياره مرشحيه للانتخابات من بين أئمة المساجد في البلدات والمدن الصغيرة، وهؤلاء لا يجمع بينهم غير حبهم للسلف الصالح. وهذا غير كاف في حياة سياسية ستقوم على التعددية والانفتاح، على ما يُنتظر من الحراك السياسي في مصر. النزعات الجهوية والطموحات الصغيرة التي حالت منذ أعوام طويلة دون وحدة التيار السلفي المصري وأبقته منقسماً بين جماعة شديدة الولاء للنظام السابق لا غضاضة عندها في التعامل مع أجهزته الأمنية، وبين تيار جهادي حاول في مناسبات عدة رفع السلاح في وجه النظام.


وفي انتظار ما سيكون عليه أداء السلفيين في مجلس الشعب المقبل، يمكن التأمل في ما كانت عليه تجربة الكتلة الاخوانية في المجلس الذي عمل بين 2005 و2010. كان لدى الجماعة ثاني أكبر كتلة نيابية بعد الحزب الوطني الحاكم (88 نائباً) وتقول مصادرهم انهم قدموا اكثر من 23 الف «أداة رقابية» من أسئلة وطلبات استجواب الى الحكومة، تتعلق بمسائل تنموية وسياسية. في المقابل، جرى التركيز الاعلامي على نوع آخر من نشاط «الإخوان» البرلماني يتعلق بدعوات الى مصادرة كتب ومنع دخول فنانات عربيات الى مصر والسعي الى التضييق على الحريات الفردية.
قد لا يخلو التركيز الاعلامي على جانب واحد من نشاط «الإخوان» من شبهة الدعاية المؤيدة لنظام مبارك، ولكن يتعين القول ان أداء تلك الكتلة البرلمانية الكبيرة نسبياً ظل هامشياً وسط اتهامات من معارضي النظام الليبراليين والعلمانيين، بوجود تنسيق بين «الإخوان» والسلطات، لمّح اليه المرشد السابق للجماعة في حديث صحافي شهير.


أبعد من ذلك، ينبغي الالتفات الى جملة من الحقائق التي ظهّرتها الانتخابات، وعكست مناخاً منتشراً على الساحة المصرية في مرحلة ما بعد الثورة. فكل من زار القاهرة يلاحظ بَرَم سائق التاكسي بالمتظاهرين، أو تأييده لقتل الجيش اولئك الذين تجمعوا امام مقر التلفزيون في ماسبيرو في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. اضافة الى مرور حوادث حرق الكنائس وسط لامبالاة محيرة لدى أوساط عريضة من المصريين. بكلمات ثانية، لا يمكن تجاهل مستوى التأييد المرتفع الذي يتمتع به المجلس العسكري الحاكم و «الإخوان المسلمون» والتيار السلفي، وكل البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحافظة، الى الحدود التي يجوز وصفها بالرجعية.


البحث عن «لقمة العيش» والاستقرار مهما كلف الأمر، قد يفسر جزئياً اصرار فئات مصرية واسعة على نبذ الثوار وحصرهم في ميدان التحرير، بل الشماتة بما يصيبهم على أيدي جنود المجلس العسكري. غير أن ذلك يظل قاصراً عن تفسير هذه الشعبية التي يتمتع بها «اليمين الجماهيري»، بحسب عنوان كتاب اصدره وضاح شرارة في مطالع السبعينات («في أصول لبنان الطائفي- خط اليمين الجماهيري»). فقد سعى شرارة في كتابه ذاك إلى وضع الاطار التاريخي للتأييد الواسع الذي كانت أحزاب اليمين اللبناني وقواه الاجتماعية (المسيحية عموماً) تنعم به في صفوف فئات يضعها التقسيم الماركسي التقليدي في صفوف اليسار.


تحتاج مقولة «اليمين الجماهيري» الى تحديث، من دون شك، بعد التغيرات الضخمة التي فرضتها الحرب الاهلية اللبنانية على المجتمع هناك، لكنها قد تساهم في رؤية الثغرة التي ينفذ منها المجلس العسكري في كل مرة يرتكب حماقة في حق المتظاهرين. فبعد أحداث تشرين الثاني (نوفمبر) في شارع محمد محمود وميدان التحرير، لم يواجه المجلس معارضة كافية في قراره تعيين كمال الجنزوري رئيساً للوزراء من دون ان يتنازل المجلس عن أي من الصلاحيات التي كان المحتجون يطالبون بإعادتها الى الحكومة، بعد تجربة عصام شرف البائسة.


ورغم الخلافات الكبيرة بين القوة الأبرز في المجتمع أي «الأخوان»، والمجلس العسكري، حول الصلاحيات الدستورية للهيئة التشريعية الجديدة والجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور الجديد، ورغم انطواء تلك الخلافات على ما يكفي من التوتر الذي قد ينـــقلب عنفاً ودماء، يبدو «الإخوان» في غير وارد التورط بصدام مع الجيش قبل ان يعرفوا تماماً المكاسب التي حققوها في الانتخابات، وخصوصاً قبل ان يحددوا هامش المناورة الذي تتيحه لهم مواقعهم الجديدة في السلطة.


هذا ما يجوز استنتاجه من الصمت المطبق الذي لزمته الجماعة حيال أحداث ميدان التحرير الأخيرة، وحيال احياء المجلس العسكري للأدوات التي كان يستخدمها حسني مبارك في مطاردته هيئات المجتمع المدني والذي تعرضت له مقرات 17 منظمة حقوقية ومدنية، بالذرائع ذاتها التي كان يستخدمها النظام السابق، أي الحصول على تمويل اجنبي والعمالة للخارج.
وينفتح هنا واسعاً باب النقاش في طبيعة الاقتصاد المصري وكيفية ادارة الثروة الوطنية وتمركزها وتقسيمها، ومرة جديدة يبدو ان انصار «حزب الكنبة» و «الاكثرية الصامتة» يتمتعون بقوى يُساء دائماً تقديرها.