كلمة "عملاء" التي أشعلت المعركة الكلاميّة في البرلمان بين النائبين نوّاف الموسوي وسامي الجميّل تستحقّ وقفة قصيرة.
فالكلمة التي جيء بها من القاموس التجاريّ (عميل لتاجر الخ) ينمّ استخدامها بمعنى تحقيريّ عن موقف متخلّف من الحياة المدينيّة والتجاريّة. وليس من دون دلالة أنّ الذين استعملوا ويستعملون هذا التعبير هجائيًّا جاؤوا بمصطلحات أخرى كثيرة من القاموس التجاريّ نفسه ثمّ حوّلوها إلى شتائم سياسيّة: وكيل، زبون وزبانية، تسوويّ، تصفويّ...
ثمّ إنّ استخدام هذا التعبير بالمعنى المشار إليه ترافق مع انكسار الحياة البرلمانيّة في العالم العربيّ منذ الانقلاب الناصريّ في مصر في 1952، وخصوصاً مع تمكّن عبد الناصر من السلطة في 1954. مذّاك بدأ يسود التخوين والاتّهام بالعمالة من قبل أنظمة مستبدّة وحركات توتاليتاريّة، كالبعثيّين والقوميّين العرب والشيوعيّين، لا يدانيها أدنى شكّ بامتلاكها الكامل لكامل الصواب. ففي اللغة السياسيّة التي سادت قبل عصر الانقلابات لم تكن مصطلحات كهذه مستخدمة، فيما اقتصر تعيين الاختلافات على كونها تبايناً في وجهات النظر أو في التمثيل الاجتماعيّ أو الأهليّ.
تسمح لنا هذه الاستعادة السريعة بالقول إنّ شيوع التخوين كان من أبرز علامات انكسار الحياة السياسيّة وإضعاف القابليّة لتأسيس تقاليد سياسيّة في مجتمعات ما بعد الاستقلال. وهذا ما سار، ويسير، يداً بيد مع توطّد الاستبداد والتحكّم بحياة الأفراد والجماعات.
وفضلاً عمّا سبق، يعاني هذا الاتّهام مشكلتين بقدر ما يدلّ عليهما: فمن جهة، ليس من الممكن إقامة الدليل على أنّ فلاناً "عميل"، بالمعنى الذي يقال فيه إنّ فلاناً الذي ضُبط وهو يخابر دولة خارجيّة، أو ينقل إليها معلومات، هو جاسوس. وعدم وجود القرينة يوثّق العلاقة بين هذا الأدب السياسيّ الرديء وبين الوعي الديماغوجيّ الذي اشتهرت به الحركات التوتاليتاريّة وشبه التوتاليتاريّة. هكذا تنطلق التهمة، التي لا تملك أيّ مستند من الحقيقة، ثمّ تغدو جزءاً لا يتجزّأ من "ثقافة" الحشود الهائجة.
ومن جهة أخرى، كيف يكون "عميلاً" من يمثّل وجهة نظر تتمسّك بها، لأسباب تاريخيّة وسوسيولوجيّة، كتل شعبيّة عريضة؟ فإذا كان مفهوماً أن يُدان فرد أو عصابة يتخابران مع دولة أجنبيّة، فكيف يُطبّق هذا المعيار على فئة صلبة من الشعب تملك وجهة نظر في السياسة والاجتماع تخالف وجهة النظر التي تملكها، أيضاً لأسباب تاريخيّة وسوسيولوجيّة، جماعة أخرى؟
وفي آخر المطاف، ربّما كان الفارق العمليّ الأبرز بين الديموقراطيّة والاستبداد أنّ تهمة كهذه تودي، في الديموقراطيّة، إلى المحكمة وإلى السجن، فيما تجعل من صاحبها، في ظلّ الاستبداد، بطلاً.
هذه اللغة تعاني اليوم مأزقها الكبير في سوريّا. وهذا المأزق لا بدّ أن يصل، عاجلاً أو آجلاً، إلى لبنان، بلد الجماعات الكثيرة والحقائق الكثيرة التي يرتبط بتعايشها حياة البلد واستمراره.
|