التاريخ: كانون الأول ١٩, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
حكم العسكر - محمد صلاح

اختلفت الحال ولم تعد الانطباعات عن المجلس العسكري بين المصريين هي نفسها التي كانت عند نزوله إلى الشوارع تاركاً ثكناته يوم 28 كانون الثاني (يناير) الماضي. وبغض النظر عن التفاصيل التي يعرفها المصريون جيداً ومعهم المتابعون للشأن المصري من الخارج، فإن الحقيقة الدامغة أن المرحلة التي يُفترض أنها انتقالية بعد سقوط نظام حسني مبارك مروراً بما يجرى على الساحة المصرية الآن... وحتى تسليم السلطة إلى رئيس مدني منتخب، لم تدر بالطريقة التي كان المصريون يأملونها من العسكر سواء من يرفضون حكمهم أصلاً أو حتى الذين يخشون على جيشهم، ويعتقدون أنه يتعرض لمكائد من جهات داخلية أو خارجية تتربص به وبالمصريين. وبعيداً من «تنظير» المحللين السياسيين عن الفارق بين إدارة المناورات والمعارك الحربية وبين غمار السياسة لتبرير وقوع المجلس العسكري في الأخطاء نفسها، باعتبار أنه خاض السياسة من دون خبرات تعينه على المرور في دروبها، فإن مشكلة المجلس الحقيقية منذ تولي مقاليد الحكم عقب تنحي مبارك أنه حوَّل مهمة إدارته لأمور الدولة إلى إدارة المصريين أنفسهم من دون أن يعي حجم الطموحات التي خلَّفتها الثورة داخلهم أو يدرك حجم التباين بين ألوانهم السياسية وطبقاتهم الاجتماعية وظروفهم الاقتصادية، وسعى المجلس إلى تفادي الدخول في صدامات مع أي طرف فدخل في معارك مع كل الأطراف. ولأنه جيش وليس حزباً أو حركة أو جماعة أو فصيلاً سياسياً، كان تعامله مع كل صدام عنيفاً حتى لو كان الأمر لا يستحق العنف ويمكن علاجه بقليل من الحكمة وبعض السياسة. وفي سبيله لإدارة شؤون الدولة في الفترة الانتقالية استجاب لمطالب الثورة وأحال مبارك ونجليه وبعض أركان حكمه إلى المحاكمة فنال رضى الثوار، لكنهم رأوا أن آخرين من زمرة مبارك تُركوا من دون حساب أو عقاب بل بقي في حوزة فلول الحزب «الوطني» بعض من مفاصل الدولة بما مكَّن «الفلول» من تعطيل أهداف الثورة أو محاربتها. وحتى المحاكمات سارت بطيئة مملة مثيرة للارتياب فلم يربح المجلس العسكري من خطوة محكمة مبارك ورجاله إلا السخط الذي زاد بالطبع بعدما ترسخ الاعتقاد بأن الرئيس المخلوع لا يمضي فترة علاج في مستشفى شرم الشيخ ثم المركز الطبي العالمي وإنما بقية حياته.


سياسياً، وضع المجلس خريطة طريق لنقل الحكم بعد مداولات ومحادثات واجتماعات مع القوى السياسية «التقليدية» مستبعداً القوى الثورية التي حرَّكت الشارع أصلاً وبقيت تملك مقومات تحريكه فزاد من الهوة بينه وبينهم. ولأن هناك تناقضات بين القوى السياسية سواء في أفكارها وأهدافها، فإنها بالطبع اختلفت حول تلك الخريطة فارتبك المجلس وسعى إلى إرضاء فريق فأغضب آخر، ومضى في استفتاء نال عليه تأييد المصريين لخطته، وكي ينال رضى الغاضبين لجأ إلى تأخير الانتخابات البرلمانية ليمنحهم فرصة الاستعداد من دون أن يدرك أن غضبهم تجاوز كل إجراء أو قرار يتخذه، ولما أدرك أن فرصهم في الفوز في الانتخابات محدودة، حاول التخفيف عنهم بوثيقة حاكمة للدستور تضمن عدم انفراد فريق (الإسلاميين) بتحديد مستقبل البلاد لكن لم يستطع الصمود أمام اعتراضهم فقدَّم تنازلاً وراء آخر حتى فرغت الوثيقة من أهدافها بعدما ربح غضب الإسلاميين ليضاف إلى نقمة القوى المدنية عليه!


وما بين تعاطي المجلس مع بقايا الماضي ودروب المستقبل كان الأداء على أرض الواقع عند كل محك مثيراً للاستغراب. ووسط ضجيج حديث أعضاء المجلس عن المخطط الخارجي والأهداف الخفية والقلة المندسة والثورة المضادة بدا من السهل دائماً استدراجه إلى مستنقع العنف وكأنه يسعى إلى أن يلدغ في كل مرة ولا يتعظ من أخطاء الشرطة. بقي المجلس في موقف ردّ الفعل يطلق المبررات ويرجئ الاعتراف بالأسباب. وما بين أحداث مسرح البالون ثم السفارة الإسرائيلية ومديرية أمن الجيزة ثم ماسبيرو ثم شارع محمد محمود ثم أحداث شارع مجلس الوزراء بقي الحديث واحداً: «قوى تسعى لإثارة الفوضى وأصابع تعبث بالأمن القومي». القوات المسلحة «التزمت ضبط النفس». «النيابة تحقق وستكشف الحقائق». وحتى الآن لم يعرف المصريون أو غيرهم أي قوى يقصدها المجلس العسكري حرَّكت الأحداث من البالون إلى مجلس الوزراء، وعندما كان الناس يطالعون بيان المجلس ونفيه اعتلاء جنود أسطح المنشآت الحكومية وقذفهم المتظاهرين بالحجارة لم يكن كاتب البيان يدرك أن العالم يشاهد الصور، وحين كان المجلس يتحدث عن اعتداءات للبلطجية على الجنود كانت مواقع التواصل الاجتماعي حافلة بمشاهد عنف الجيش ضد المتظاهرين، وعندما بحث العسكر عن مناصرين من بين لاعبي السياسة وجدهم جميعاً على الجانب الآخر البعيد يمتنعون أو يتنصلون أو ينتقدون، وبينما كان المجلس يتحدث عن الانتخابات والديموقراطية والسلطة المدنية المقبلة تساءل الناس وماذا عن حكم العسكر؟