التاريخ: تشرين الأول ١٨, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الصراع على الأزهر في حقبة ما بعد الثورة - ناثان ج. براون

جميع القوى السياسية في مصر متفقة على جعل الأزهر اكثر استقلالا عن النظام. لكن هذا الاتفاق مضلل جدا، فهو يخفي صراعا داخل الازهر وبين القوى السياسية الرئيسة، على دوره. "أوراق كارنيغي" اصدرت دراسة للباحث والاستاذ في جامعة جورج تاون ناثان ج. براون بعنوان "الازهر ما بعد الثورة" (ايلول 2011) نقتطف منها ما يشير الى هذا الصراع.

 

المثقفون الليبراليون واليساريون الذين يشعرون بالقلق إزاء تنامي دور القوى السياسية الإسلامية، والمرتابون من محاولات جعل حياة الشعب المصري أكثر تديُّناً، لهم موقف متناقض تجاه الأزهر. فمن ناحية، يُمكن لدوره في الرقابة الثقافية، والنزعة العامة المحافظة للمؤسسة، ووجود السلفيين والمتشددين والظلاميين في صفوف علماء الأزهر، أن يُولِّد قدراً كبيراً من الامتعاض. ومن ناحية أخرى، يُمثل الأزهر حصناً غير مبتكر لكن محترماً في مواجهة الحركات الاجتماعية والسياسية الإسلامية التي تميل إلى إطلاق تفسيراتها الجامدة والصارمة للتعاليم الإسلامية غير المرتبطة (في نظر الليبراليين) بأي شعور بالولاء للدولة المصرية، أو الإخلاص للمبادئ الديموقراطية، أو حتى بأيٍّ من أُسس التقاليد الإسلامية. وليس من الواضح أنّ من شأن دور أكثر قوة للأزهر أن يضعف في الواقع الجماعات الإسلامية، لكن غالباً ما يكون خصوم الإسلاميين تواقّين إلى وجود أي ثقل موازن محتمل. ثقل الأزهر هنا هو مصدر قوته. الإسلاميون قد لا تروق لهم تعاليم الأزهر في جميع النواحي، لكنهم يفضلونها (ويجدونها أكثر قابلية للتنبؤ و أكثر مرونة بالنسبة إلى المطالب السياسية الأخرى) على تعاليم جماعة الإخوان المسلمين وخصوصاً تعاليم السلفية.


تُوفِّر الوسطية مُمثَّلة بمكتب الشيخ تطميناً لابأس به لمن تساورهم مثل هذه المخاوف. وفي حين قلص افتقار المؤسسة إلى الاستقلال عن النظام هيبتها خلال العقود الأخيرة، جعل رحيل مبارك حداثة ومرونة زعامة الأزهر تبدو أقل انتهازية و أكثر جاذبية لمن يسعون إلى الحصول على تفسير محترم (وحتى موثوق) للإسلام أكثر ملاءمة للمخاوف الليبرالية.


تمثّلت النتيجة الفورية بعد الثورة في التفاوض على "وثيقة الأزهر " بين علماء الدين والمفكرين البارزين، التي أعلنت في حزيران 2011. وقد تمكَّن مختلف المشاركين من الاتفاق على مجموعة من المبادئ السامية، تُفسِّر تعاليم الدين الإسلامي عموماً بطريقة متّسقة للغاية مع القيم الليبرالية والممارسة الديموقراطية. قوبلت الوثيقة بترحيب حارّ من العديد من الأطراف الفاعلة، على المستويين المحلي والدولي، حيث كانت عامة بما يكفي لجذب الدعم من مختلف الأطراف، ولكن ليبرالية في لهجتها ومضمونها بما فيه الكفاية لتبدو أكثر من كونها مجرّد عبارات عادية ومستهلكة.


مع ذلك، كان ثمة واقع سياسي ركيك وراء قائمة المبادئ الملهمة. فقيادة الأزهر ربما شعرت بأنها سياسياً في بيئة ما بعد الثورة، وغير واثقة لا حيال سمعتها بين الثوريين ولا حتى حيال الدعم لها بين صفوفها (المثير للاهتمام هنا أن العديد من القادة الدينيين المشاركين لم يأتوا من صفوف الباحثين والعلماء في الأزهر). وفي الجانب الليبرالي، كان هناك اهتمام واضح بمساندة الأزهر، لا لذاته بل كوسيلة لتعزيز الثقل الديني في مقابل الحركة الإسلامية.


■ ■ ■


ثمّة رؤية بديلة لدور الأزهر في المجتمع المصري يدعمها الكثيرون داخل صفوف المؤسسة من العلماء، وكذلك بعض خريجيها ومؤيديها. منذ قيام الثورة، كان أشدّ المعبّرين في العلن عن هذه النسخة الأكثر وضوحاً من دعوة الشيخ إلى الإستقلال هو جمال قطب، الرئيس السابق لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر. بالنسبة إلى قطب، يُمثِّل الأزهر في آن واحد صوتاً مستقلاً ومسيطراً للتعاليم الإسلامية في مصر. فهو وأنصاره يجادلون بأن المشاكل لم تبدأ مع التأكيد الناصري على السيطرة على المؤسسة، بل قبل عقود عدة حين كان البريطانيون يحتلون البلاد. ويدَّعي قطب أن البريطانيين الذين كانوا ينظرون إلى الأزهر كمعقل محتمل للمعارضة، عملوا على تقسيم دور المؤسسة بين هيئات أخرى مختلفة نشطت منذ ذلك الحين لتحقيق أهداف متقاطعة، ما أدّى إلى إرباك المصريين بالتفسيرات المتناقضة.


لاشك في أن هذه النظرة التاريخية تنطوي على مبالغة كبيرة (ثمة شيء من المفارقة في الدعوة إلى استعادة هيئة كبار العلماء، وهو ما يُمثِّل أساساً عودة إلى النظام المصنَّف في القوانين التي صدرت في العام 1896 والعام 1911، عندما كان البريطانيون يحتلون البلاد). لكنها رسمت صورة أكثر قبولاً للأزهر تحديداً، وهيئة علماء الدين عموماً، على أنهما لعبا دوراً رئيساً في الدفاع عن المجتمع المصري في اللحظات الوطنية الحرجة (أثناء الاحتلال النابليوني أو انتفاضة العام 1919).


يركّز الاقتراح الذي يقدمه هذا المعسكر لـ"استعادة" الأزهر - مجموعة المطالب التي حرَّكت التظاهرات في آذار - على فصل الأزهر عن مجلس الوزراء، ومنحه استقلالاً مالياً وإدارياً، وإحياء هيئة كبار العلماء، والسماح لها بانتخاب شيخ الأزهر. في هذا الصدد، أفكاره تشبه تلك التي أقرّتها جهات فاعلة أخرى. لكن المعسكر يذهب إلى ما هو أبعد كذلك: فهو يقترح مزج دوري دار الإفتاء ووزارة الشؤون الدينية في الأزهر أيضاً. وهذه الخطوة تتجاوز إعادة المؤسستين إلى سيطرة الأزهر، وهما أُنشئتا لمصلحته. من شأن هذه الخطوة أن تجعل المؤسسة مسيطرة على جميع الأوقاف الدينية في البلاد وتحوّلها إلى مسؤول عن جزء كبير من المساجد.


يمكن أن ينتقد المتشددون أيضاً انتشار الفتاوى في مصر المعاصرة، (وهم ليسوا وحدهم في هذا المضمار)، لكنهم يعتبرون الأزهر القوي وسيلة لإسقاط الصدقية عما يرونه محاولات من الهواة لتفسير التعاليم الإسلامية بطريقة لا تساهم إلا في إرباك المؤمنين. وباختصار، فهم يرغبون في رؤية مؤسسة واحدة تتحدث مخوّلة بلسان الإسلام داخل الدولة المصرية، وتتولى دوراً قيادياً في المجتمع ككل.
عندما سألت أحد كبار المسؤولين في مكتب الشيخ عن رأيه في مثل هذه الاقتراحات، أجاب بشكل قاطع أن الأزهر ليست لديه الرغبة في أن يكون مثل الفاتيكان. المصريون الآخرون يرون أن تأثير الاقتراحات قد يُنتج ما يشبه النظام الايراني. مثل هذه النماذج غير جذابة تماماً لمعظم المصريين، وحتى بالنسبة إلى مَن هم في معسكر التقليديين المتشددين (الذين سرعان ما سيتنصّلون من أي رغبة في تقليد الكنيسة الكاثوليكية أو إيران). لكن عندما سألت أحد العمداء في الأزهر حول المزايا المحتملة لوجود العديد من التفسيرات الدينية المتاحة للمؤمنين العاديين (سيضطرون إلى أن يأخذوا على عاتقهم بعض عبء الفهم والفرز بين الحجج المختلفة)، أجاب بأن مثل هذا الترتيب سيكون معقولاً في مجتمع متعلِّم، لكن المصريين ما زالوا في حاجة إلى جهة مُوجهة أكثر حزماً لا تربكهم بحجج متناقضة. وبهذا المعنى، المُحرِّك وراء الرؤية الأوسع نطاقاً لدور الأزهر ليس أي مذهب يدعم السلطة السياسية للكهنوت، ولا الرغبة في امتلاك السلطة السياسية، بل هو الشعور بالكفاءة المهنية والنزاهة وجرعة كبيرة من الأبوية.


يُعبِّر المنتمون إلى هذا المعسكر عن نفاد الصبر تجاه غموض وثيقة الأزهر، ويصفونها بأنها مبادرة من الشيخ لم تنبثق (أو أنها لم تنطوِ على مساهمة كبيرة) من هيئة علماء المؤسسة. وعلى الرغم من ذلك، لم يهاجموا بوضوح المبادئ العامة التي تنص عليها المبادرة. وعموماً، فإن من يمكن وصفهم بأنهم "تقليديون متشددون" يصرّون على ضرورة وجود صوت قوي ومستقل للأزهر، لكنهم يقدمون أنفسهم على أنهم مدربون تماماً في مجال التقاليد الإسلامية للمعرفة الدينية. وفي حين أن هذا يمكن أن يجعلهم عنيدين بشأن بعض المسائل (جبهة علماء الأزهر اكتسبت سمعتها بجدارة في هذا الشأن)، إلا أنه لا يجعلهم ضيقي الأفق بصورة متّسقة. ففي حديث شخصي مع جمال قطب، على سبيل المثال، وجدت أنه يسارع إلى تقديم تفسير متساهل إلى حدٍّ ما للتعاليم الإسلامية على عقوبة الردة.


مع أن المرتبطين بهذا المعسكر يظهرون في بعض الأحيان قدراً كبيراً من المرونة، إلا أنهم يعتبرون أنهم يقدمون الإخلاص للتقاليد الاسلامية على الانتهازية السياسية، ويستحقون الاحترام بسبب التعليم والتراث الذي يمثّلونه.


■ ■ ■


يمكن اعتبار الحجج التي يسوقها التقليديون المتشددون قريبة من حجج الإخوان المسلمين، لا بل تنظر الحركة إليهم بعين التعاطف الكبير. لكن في الواقع، موقف الإخوان غامض لأنه متجاذب بين دوافع مختلفة.


فمن ناحية، لطالما وجدت فكرة تمكين صوت خبير ومستقل في شأن مسائل التعاليم الدينية (وخاصة بشأن الشريعة الإسلامية) صدى عميقاً لدى الإخوان. ففي العام 2007، طرحت جماعة الإخوان ولفترة وجيزة اقتراحاً لم يكن من شأنه إعادة تشكيل هيئة كبار العلماء فقط، بل أيضاً مَنحِها سلطة مراجعة التشريعات البرلمانية لضمان توافقها مع الشريعة الإسلامية. تراجعت جماعة الإخوان سريعاً عندما تم توبيخها بسبب إثارتها ما اعتبره العديد من النقاد محاولة لتأسيس حكم رجال الدين، ومذاك الحين أعلن زعماء بارزون ولاءهم لدور المحكمة الدستورية العليا في البلاد باعتبارها الهيئة المكلفة بمراجعة التشريعات. (وفي حين أن الاقتراح ميت سياسياً الآن، فإنني ذكرته لأحد أعضاء جبهة علماء الأزهر الذي قال إنه لم يسمع به، لكنه وافق من حيث المبدأ على فكرة إتاحة فرصة ما للأزهر لإعادة النظر في التشريعات). وعلى أي حال، لا تزال جماعة الإخوان تحترم الأزهر كمؤسسة وترغب في ر ؤيته وقد استعاد دوره.


ومن ناحية أخرى، فإن جماعة الإخوان لا تدعم تماماً الر ؤية التقليدية المتشددة. قيادة الحركة نفسها تتكون في معظمها من أشخاص ذاتيي التعلّم في المسائل الدينية، وهي تحمي الفكرة القائلة بأنه لا يمكن حظر الفتاوى المستقلة. كما أن لديها اعتراضاً على مضمون وثيقة الأزهر، وأعطت إشارات إيجابية ولكن غامضة حول مضمونها (في الواقع، عندما سعت القوى السياسية الأخرى إلى وضع مجموعة من "المبادئ فوق الدستورية" في محاولة مكشوفة لاحتواء القوة الانتخابية المتوقعة للإسلاميين، رأى البعض في معسكر الإسلاميين أن مقاربة الأزهر والوثيقة نفسها بديل عملي تماماً). لايتّفق الإخوان بأي حال من الأحوال مع الرأي القائل بأنّ إحياء الأزهر سيُغني عن الحاجة إلى دورهم في المجتمع.

 

(مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي)