الأسبوع الماضي، ضرب العنف الدمويّ مصر، مستهدفاً بشكل خاص أبناء الكنيسة القبطيّة المصريّة موقعاً بينهم عشرات الضحايا بينَ شهيد وجريح.
"الإنطباع" العام لدى عديد من المتابعين والمراقبين، هو أنّ ما حدث في ذلك الأحد الدامي، إنّما حدث بالفعل على تقاطع أمرين، أي بسببهما. الأوّل هو دخولّ سلفيّ، أو أصوليّ ما على الخطّ لإشعال مواجهة بين الأقباط المتظاهرين سلمياً من جهة والقوات المسلّحة المصريّة المنتشرة في مناطق التظاهر من جهة ثانية. والثاني هو في الحدّ الأدنى إنعدام "الخبرة" لدى المجلس العسكري في إدارة أزمات المرحلة الإنتقاليّة، أي في إستيعاب الازمات ومقاربة مسبّباتها من أجل تصحيح ما يقتضي تصحيحاً مِن المسارات المفترض أن تقود في نهاية المطاف إلى إنجاز الإنتقال نحو الجمهوريّة المصريّة الثانية.
على أيّ حال، وفيما كان الشجب لهذا العنف وإستهدافاته سيّد ردّ الفعل في مصر وخارجها، وجدَ عددٌ مِن مروّجي موقف ما يُسمى "الخوف على الأقليات" من دينيي الشرق المسيحيين وسياسييهم، أنّ "موقعة ماسبيرو" في القاهرة تثبّت "الخوف" من ناحية وتبرّر "عدم السعادة".. بل الإمتعاض من الربيع المصري ومن مجمل الربيع العربيّ من ناحية ثانية، وتعطي صدقيّة لتأييد "الخائفين" الضمني للديكتاتوريّات الحامية للأقليّات ولرفضهم للتغيير المجهول كما يدعون من ناحية ثالثة وتزكّي مطالبتهم بما يسّمونه "الإستقرار المعلوم" من ناحية رابعة!.
بيدَ انّ ما تدعو أحداث القاهرة إلى تركيز الإهتمام عليه، معاكسٌ تماماً لصورة "الخوف" السوداء تلك.
فبالفعل ثمّة صورة مشرقة.
فتظاهر أقباط مصر الأحد الفائت مبادرةٌ سياسيّة ووطنيّة مصريّة شجاعة أولاً. وفي هذا التظاهر السلميّ كسرٌ للمراوحة التي تعيشها مصر في المرحلة الإنتقاليّة بعد نجاح ثورة 25 يناير في إسقاط الرئيس السابق حسني مبارك وأركان حكمه ثانياً. وفي هذه المبادرة يقوم الأقباط المصريون بثورة في الثورة ثالثاً، وهم شركاء أصليّون في الثورة الأمّ أساساً. وبنزولهم السلميّ إلى الشارع، يفرضون تصحيح مسارات المرحلة الإنتقاليّة بل يفرضون أولويّة البتّ بمسالة المساواة بين المصريين، المساواة في المواطنة في إطار دولة مدنيّة تعدديّة ديموقراطيّة هي عنوان مصر في المرحلة التالية، بدلاً من الإستغراق طوال الوقت وفقط في تفاصيل ما يجب أن يكونه النظام السياسيّ الجديد..
رابعاً. ثمّ إنّ من أكثر الأمور أهميّة أنّ تحرّك الأقباط أتى يبرهن ليس فقط قناعتهم بدورهم في بناء مصر الجديدة من ضمن الثورة التي ساهموا فيها بالأصل، بل أنّ لدورهم تأثيراً كبيراً في مجتمعهم ودولتهم وفي مستقبلهما خامساً.
إذاً، على الرغم من الكلفة الدامية الباهظة، فإنّ تحرّك الأقباط عنوان شجاعة وليس عنوان خوف، عنوان إقدام لا عنوان إحباط، عنوان مبادرة ودور لا عنوان إنكفاء.. وعنوان تغيير من ضمن الربيع.
وفي واقع الأمر، إنّ الأقباط المصريين حقّقوا عدداً لا يُستهان به من النتائج.
أحدثوا تحريكاً مهماً للمياه الراكدة.
حازوا على تضامن فوريّ من تيّارات واسعة في ثورة 25 يناير، ومن شرائح كبيرة في الإجتماع المصريّ، ومن المسلمين المصريين بنخبهم السياسيّة والثقافيّة المتنورة.
حصلوا على إعتراف بأنّهم يطرحون مسألة حقّ، إعتراف بضرورة حماية الدولة لحريّة المعتقد ولدور العبادة.
نجحوا في فرض مسألة المواطنة والمساواة على جدول أعمال المرحلة الإنتقاليّة.
فرضوا حقيقة أنّ مصر التعدديّة محكومة بإنتاج قواعد متجددة للشراكة الوطنيّة، الإسلاميّة المسيحيّة.
قالوا بوضوح إنّهم، ما لم يكن دورهم مكرّساً فهم قادرون على إنتزاعه.
بإختصار، خلطوا ما يُسمى عادة "أوراق اللعبة".
من نافل القول إنّ النتائج المنوّه عنها آنفاً للحراك القبطيّ في مصر، تحتاج إلى متابعة كي تضحي معطيات ناجزة.
غير أنّ هذه النتائج، خصوصاً عندما تكرّس دستوراً وقوانين، وعندما تغدو ثوابت وقواعد وطنيّة مصريّة شاملة، ستعني في مصر كونها بلداً عربياً ذا غالبيّة مسلمة، وخارج مصر في دول عربيّة وإسلاميّة أخرى، مرحلةً جديدة ينتهي معها وبها عنوانان خطيران "يجرّان" من المرحلة السابقة.
العنوان الأوّل هو سقوط "المشروع السلفي" المتطرّف – أخذاً في الإعتبار أنّ ثمّة سلفيين يعلنون إعتناق المسالمة – الذي يقول بـ"الدولة الدينيّة" ولو في بلد تعدّدي وبالرغم من انّ التعدّد لا يُقاس بنسب عدديّة.
والعنوان الثاني هوَ إفراغ تفكير "القاعدة" من مضامينه كافّة. فلا المسلمون يقبلون بمناهضة المسيحيين، ولا المسيحيون أتباعٌ لـ"الحروب الصليبيّة"، ولا المسلمون والمسيحيّون معاً يناصرون "نظريّة الفسطاطين" التي يتظلّل بها التطرّف والإرهاب لقسمة المجتمعات والشعوب والدول.. والعالم.
.. وثمّة من يستدرك ليضيف عنواناً ثالثاً لخطر مصيره السقوط في أجل منظور. إنّه المشروع الإيراني في المنطقة الذي يلعب على التناقضات داخل الدول العربيّة ويريد لها أن تبقى ضعيفة.. ويناهض الربيع وتحوّلاته الديموقراطيّة المدنيّة، كي يبقى قادراً على "التوسّع".
نعم سال دمٌ قبطيّ كثير في مصر. نعم تعرّض القبطيّون لعنف "أصوليّ" وآخر سلطويّ.
لكنّهم في تلك "اللحظة"، وبما حقّقوه وبما سيحقّقوه مع شركائهم في وطنهم، أدّوا الدور الطبيعي التاريخيّ المشرّف لمسيحيي الشرق.. وربّما بإسم هؤلاء جميعاً. الدور الذي يُفرض. الدورُ الذي لا يخيفه أحد. الدور الذي تستدعيه المرحلة. الدور الذي ينطلق من أنّ الربيع العربيّ عنوانٌ لإزدهاره لا للأفول. وبعدَ هذه السطور جميعاً، لا بدّ من كلمة تتّصل بلبنان.
إنّ ثورة مصر بمسلميها وأقباطها، كما سائر دول الربيع العربيّ – بما يُسمى أكثريّاتها وأقليّاتها العدديّة – تملك إمكانيّة الإنطلاق من "النموذج اللبناني" للعيش المشترك. لكن على مسيحيي لبنان المعتبرين من زمن طويل "طليعة" مسيحيي الشرق – أو المشرق العربي – أن يساهموا في تطوير "النموذج اللبناني" تطويراً للمنطقة ككّل.
فلبنان هو أسطع مثال على ثنائيّة التعدّد – المواطنة. ثمّة جماعات وثمّة مواطنون وللجماعات حقوقها ومصالحها وللمواطنين حقوقهم. والجمعُ بينَ هذا وذاك، لا بدّ أن يحصل بالدولة المدنيّة أو بتطوير المقوّمات المتوافرة للدولة المدنيّة اللبنانيّة.
هنا ينبغي أن ينصبّ جهدُ اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، إنطلاقاً من ميثاق الطائف.
شجاعةُ أقباط مصر مثال. لا للتخويف ولا للخوف. ولا لـ"الندب" من بعضهم ولا للتفتيش عن "حماية" بالديكتاتوريّات أو عن "تحالف أقليّات". حماية الجميع بالجميع وبالدولة المدنيّة. ولا للثرثرة وللمزيد منها من جانب بعض "الناعقين". إنّها التجربة اللبنانيّة التي تؤكّد أنّ دور المكوّنات يتكامل من أجل "الوحدة الوطنيّة" وتطويرها. إنّه التاريخ الذي يقول إنّ حصول عنف ضدّ جماعة يواجهُ من الجميع ومعاً بالقيم المشتركة للعيش المشترك والحريّة والديموقراطيّة والعدالة والمساواة.
|