القاهرة – أمينة خيري مناسبات المصريين الوطنية الحديثة صارت زاعقة صاخبة. وسر الزعيق يكمن في التشتيت. أما الصخب فهو يصدر إما عن أغان وطنية تمجد في الأحداث، أو حراكات عنكبوتية تحقر وتسب المحتفلين، أو قرارات حكومية ما أنزل الله بها من سلطان في توقيت لم يكن على البال.
بال المحتفلين والمحتفلات بالعيد الرابع لثورة 30 حزيران (يونيو) عام 2013 كان مشغولاً حتى ساعات قليلة مضت بتوصيف احتفالهم واختيار لقب له. كانوا تائهين بين الألقاب. فما يعرفون أنه «انقلاب الإرادة الشعبية على حكم الإخوان» معروف بين داعمي الجماعة وأبناء عمومهم أنه «انقلاب العسكر على أول رئيس مدني منتخب أتت به الصناديق». وبين اللقبين والتعريفين هوة سحيقة تتحرك فيها فئات شتى تعكس أطيافاً متنافرة متضاربة.
وبدلاً من أن يقتصر التضارب على التناحر بين تمجيد وتفخيم وتذكير بـ «اليوم الأطهر في تاريخ مصر الحديث» و «الثورة الأنقى في ثوب الربيع العربي المتفتت» من جهة، وبين «اليوم الأسود في تاريخ المصريين» و «الانقلاب الدموي الذي لطخ الربيع العربي»، وما بينهما من دوامات محتارة من معارضة تائهة ومشتتة، وجد الجميع نفسه في خانة الصدمة. صدمة رفع أسعار الوقود وأسعار أسطوانات الغاز بعد سويعات من تأكيدات رسمية بأن الزيادات لم تتقرر بعد، ضربت الجميع في مقتل. لكن بين مقتل الفجيعة الفظيعة التي ألمّت بالمحتفلين، ومقتل الشماتة الغامرة التي أسعدت قلوب «الإخوان» وداعميهم، ومقتل السعادة بشير التغيير التي تمكنت من قلوب المعارضين، فروق جوهرية وتناحرات مصيرية لوّنت احتفال/ إحياء الذكرى الرابعة.
بدأت أجواء الذكرى الرابعة معتادة كلاسيكية، فالمعارضون من غير تيارات الإسلام السياسي واقفون في المربع صفر، فلا هم مؤيدون لنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، ولا هم موافقون على عودة الجماعة، ولا هم مستعدون لطرح البدائل أو اقتراح المخارج. استعداداتهم القصوى ظلت مقصورة، كما جرت العادة الثورية، على تلك «الهاشتاقات» التي يشد بها بعضهم أزر بعض، والتدوينات التي يتخمونها بمظاهر الفشل وظواهر التخبط وعوارض التيبس. حتى محاولات طرح الأفكار خارج الصناديق واقتراح الشخصيات الجائزة للترشيح بدت ارتجالية وعشوائية.
لكن بزوغ صدمة زيادة أسعار الوقود أضاءت أفق المعارضة من حيث لم تحتسب. دقائق معدودة شهدت تحولاً جذرياً. فمن تغريدات بكائية على الحريات المقموعة، والمواقع المحجوبة، وقناديل البحر المحمومة (التي ظهرت في مياه المتوسط فجأة)، ودق على أوتار الوطنية «المغدورة» في التنازل عن تيران وصنافير والتقارب مع دول الخليج، والسخرية من «كحك الجيش» إلى أوركسترا متناغمة تعزف مقطوعة الشماتة في الشعب الذي لم يثر على النظام، ومعزوفة السعادة من باب أن التغيير لم يعد يحتمل التأجيل.
«تأجيل اختيار أسماء مرشحين للرئاسة لم يعد مطروحاً. علينا أن ندق على الحديد وهو ساخن، وارتفاع أسعار الوقود ستدفع حتماً ملايين حزب الكنبة إلى إعادة التفكير»، حسبما كتب أحد الناشطين على صفحته. صفحات الشبكة العنكبوتية اشتعلت شجباً وتنديداً لقرار الزيادة وتوقيته.
المصريون المؤيدون للنظام أو من أنصار حزب الكنبة من كارهي التغيير ومناهضي التثوير، والذين ما زالوا يشكلون الغالبية المطلقة، وجدوا أنفسهم في حيص بيص. فبينما هم ينفضون كسل إجازة العيد الطويلة، ويودعون مشاهدة التلفزيون ساعات مديدة، استيقظوا على وقع زيادة الوقود التي تعني من دون أدنى شك زيادة آنية في كل السلع من الإبرة إلى الصاروخ. البعض هرع إلى التلفزيون ليتأكد من الخبر الكارثي. وجده حقيقة راكضة أسفل الشاشة. شعر بحنق شديد، خصوصاً أن إعلانات 1095 من حكم الرئيس يجري بثها على مدار الساعة. سماح السيد (40 عاماً) (عاملة منزلية) فاض بها كيل إعلانات المشاريع القومية والعاصمة الإدارية وكانت تنتظر ضبط أسعار السلع الغذائية وتوفير المزيد من المواد التموينية، لكنها فوجئت أمس بأجرة الميكروباص تتضاعف وأسعار الطماطم تتزايد. تقول: «والله كنت فرحانة بإجازة 30 يونيو. لكن غمة البنزين (الوقود) وأنبوبة البوتاغاز ستقضي علي».
القضاء الذي تشير إليه سماح يشبه إلى حد كبير القضاء على فرحة الملايين بذكرى إسقاط حكم «الإخوان». وتبلور هذا القضاء في ثوان معدودة أمس، فبدلاً من تصدُّر «هاشتاقَي» الاستقطاب المعهود «تفويضنا للسيسي مستمر» و «خراب مصر على يد السيسي» تريند «تويتر»، أزاح هاشتاق «البنزين» كليهما.
وبعد ما كان المغردون المحتفلون بذكرى خلع «الإخوان» يعيدون تغريد «ذكرى تعامد كف الشعب على قفا الإخوان» ويسارعون إلى «لايك» و «شير» لتدوينات استعادة ذكريات أربع سنوات مضت، انكفأ الجميع على متابعة تطورات الزيادات. في تلك الأثناء، كان أنصار الجماعة ومحبوها يحتفلون تارة بالشماتة في مَن نَزَلَ يوم 30 وكان يخطط للاحتفال لكن صدمة الزيادة أقعدته، وتارة أخرى بالتذكير بأن «الدكتور محمد مرسي ترك البلاد وسعر ليتر الوقود بـ185 قرشاً والدولار بسبعة جنيهات و45 قرشاً». كما عاد أنصار آخرون من تحت الركام إلى الواجهة، وهم أنصار الرئيس السابق حسني مبارك. وجرت مبارزات استعراضية، إذ تفاخروا بأنه تنحى عن الحكم وسعر ليتر الوقود بـ80 قرشاً واسطوانة الغاز بأربعة جنيهات.
في خضم أجواء الاحتفالات التي انقلبت مبارزات كلامية وشماتات عنكبوتية ومحاولات تهييج علها تصب لمصلحة جماعة هنا أو مجموعة هناك، أصيب الشارع بوجوم واضح وقلق بالغ. جهود رفع أسعار المواصلات غير الحكومية والسلع الغذائية وشتى أنواع الخدمات العشوائية التي تسمى اقتصاداً غير رسمي (يشكل بين 50 و60 في المئة من حجم السوق المصرية بحسب مصلحة الضرائب) سارت على قدم وساق. ولم يتبق سوى انتهاء إجازة العيد الطويلة وعطلة نهاية الأسبوع للتعرف من قرب إلى رد فعل الشارع بعد أن يفيق من أنبوبة الغاز التي أصبحت بـ30 جنيهاً في ذكرى 30 يونيو.
|