التاريخ: أيلول ٥, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
مصر: شمس المرشّحين تسطع في أعين الناخبين
القاهرة – أمينة خيري 
بعد أن كادت خيوط العناكب تسدّ الأبواب، وأتربة الشهور تلطّخ قاعة الاجتماعات، وحرارة الصيف تفسد أوراق البرامج، وقبلها برد الشتاء يفتّت أنسجة اللافتات، وخناقات الرقص في المقار والتحرّش بالنساء تشوّه ما تبقى من سمعة، وبعدما ظنّ العباد أن البلاد في مأمن من الانتخابات التي تتفجّر فيها التحالفات، وتنشطر خلالها الائتلافات، وتنعقد بسببها المصالحات، وتتناحر عليها القوائم والأفراد، ويغزو حينها الدكاترة والجهابذة والأباطرة استوديوات الفضائيات، وتسخّر فيها الأقلام لصبّ الغضب على دماغ هذا وتركيب جناحي ملائكة في ظهر ذاك، انجلى ليل الأحزاب وبزغت شمس المرشّحين، وحطّ موسم الانتخابات على رؤوس المصريين الموعودين بالمرحلة الثالثة والأخيرة من «خريطة المستقبل».

«خريطة المستقبل» الموضوعة في أعقاب «انقلاب الإرادة الشعبية» على حكم «الإخوان» في 30 حزيران (يونيو) 2013، باتت مرحلتها الثالثة (الثانية سابقاً) على الأبواب، معنونة تارة «استحقاقاً ثالثاً» لدى المناصرين وموصومة تارة أخرى «استخفافاً عاتياً» لدى المعارضين من «الإخوان» والسلفيين وعدد من الثوريين.

أبواب الانتخابات التي انفتحت بعد سدة تشريعية عتيدة وانغلاقة قانونية عميقة، وتأجيلات غير مرة وصفها مواطنون بـ «الحميدة» ونعتها معارضون بـ «المعروفة»، بينما جاءت للمرشحين إما نجدة من السماء أو «وكسة» من القضاء الذي حكم في آذار (مارس) الماضي، بوقف قرار اللجنة العليا للانتخابات دعوة الناخبين إلى التصويت في ضوء عدم دستورية المادة الثالثة من قانون تقسيم الدوائر، فأوقف التحضيرات الدائرة في مطابخ الأحزاب والتربيطات الجارية في الغرف المغلقة والإجهازات المدبّرة بين هؤلاء وأولئك.

وبعد أموال طائلة أنفقها المرشحون (أو أنفقها عليهم الداعمون) بلافتات تهنئ أهالي الحي الكرام بالعيد السعيد، وأخرى تغازلهم طلباً للتأييد، وثالثة تدقّ على أوتارهم الحساسة بعرض «الاستشارات القانونية مجانية» أو «تلقي المظالم الاستثنائية» أو حتى «بيع السلع بأسعار رمزية»، تبدّد الحلم الانتخابي. وبعد دوائر مفرغة غرق فيها الباحثون عن تحالف هنا أو ائتلاف هناك، وخلافات وجودية دخلت فيها الأحزاب المولودة من رحم الثورة، وأخرى شمولية انخرطت فيها الأحزاب «العريقة» القائمة على تاريخ قديم ولّى ودبر وآخر حديث حوّلها إلى كيانات كرتونية تارة، ومعارضة مدجنة تارة، تبخّر الاستحقاق البرلماني.

عودة الاستحقاق البرلماني بعد مئات التصريحات وعشرات التواريخ، نزلت على الغالبية العظمى من المشاركين في الماراثون الانتخابي كأنها خبر فجائي جديد أو حدث مباغت فريد لم يكن متوقعاً أو كان صادماً. وباستثناء تربيطات هادئة كانت تنعقد على هامش المال والأعمال، وأخرى متوقعة حيث عودة لوجوه قديمة حتى وإن كانت جديدة، وثالثة معروفة حيث عمل على قدم وساق من دون كلل أو ملل وبلا تأجيل أو تمديد في دوائر حزب «النور»، دخل كل الأحزاب وجميع الكيانات ذات الطابع السياسي الذي يرشّحها لخوض الانتخابات البرلمانية، شهوراً من البيات والسبات والإغفاء.

الإغفاءة الحزبية المصحوبة بسكتة فردية، لفتت انتباه المواطنين الذين لا يأبهون أصلاً للتقسيمات الحزبية والفروق الأيديولوجية والحيوات الحزبية. أصحاب المحلات الصغيرة المتراصة في شارع الترعة البولاقية في حي شبرا العريق، يعرفون أن فتح باب الترشّح للانتخابات البرلمانية يعني استقبالهم لعشرات المندوبين ومئات العاملين الناطقين باسم هذا المشتاق أو ذاك العشمان في مقعد برلماني تحت القبة. يقول أحدهم لجاره: «بالأمس فقط جاءتني أربعة وفود لأربعة مرشحين يريدون تعليق لافتات تهنئة لشعب مصر العظيم، الأول لمناسبة عيد الأضحى، والثاني لدخول المدارس، والثالث لانتصار أكتوبر، والرابع من غير مناسبة، والبقية تأتي».

البقية لا تأتي بالضرورة، لكنها تبادر أحياناً بلافتة ضخمة عابرة للشارع تربط بين شرفة «مدام منى» ونافذة «الحاجة عنايات»، ليعلن فيها الأستاذ فلان الفلاني محبّته، ويؤكد معزته لأهالي الحي الكرام، ويعاهد الله على أن يستمر في خدمته لهم، من دون إشارة إلى انتخاب أو تنويه بأحزاب أو تنبيه إلى انتماء، فقط «من أجل مصر».

«من أجل مصر» و «في حب مصر» و «صحوة مصر» و «وحدة مصر»، بل و «مصر» بلا إضافات، كلّها أسماء تحالفات تشكّلت قبل قرار وقف الانتخابات قبل خمسة شهور، ويتوقع أن تعاود الظهور. والمثير أنها تعاود الظهور بالخلافات نفسها والخناقات ذاتها التي كانت آخر عهد المصريين بها قبل دخولها بيات التأجيل. لكن الحق يقال أن هناك من خرج من بيات التأجيل بـ «لوك» جديد وخبر فريد، بدءاً بواقعة تحرش جنسي ضلع فيها قيادي في حزب عريق، وحادثة رقص في مقر حزب أصيل، مروراً بموجة استقالات عصفت بأركان حزب جديد ظُن أنه عتيد، وانتهاء بهوجة إقالات في حزب آخر اعتُقِد أنه فريد، وفورة تغييرات في ثالث اعتُبِر أنه معارض.

وإذا كانت المعارضة في شكلها الكلاسيكي غير واردة في البرلمان المقبل، حيث أحزاب اصطفت مع الشعب والجيش والشرطة للتخلّص من حكم «الإخوان»، وفلول عائدين إما من غياهب براءات في قضايا فساد أو دهاليز اختيارات الانزواء، ورجال مال وأعمال سواء بأنفسهم أو عبر وكلاء سياسيين يحاولون إعادة إغلاق ثالوث المال والأعمال والسياسة، فإن المعارضة شبه المؤكدة ستكون موجّهة ضد حزب «النور» الوحيد الناجي من حملة تطهير المشهد السياسي من الأحزاب صاحبة الخلطة السحرية للدين والسياسة والأعمال الخيرية، إضافة إلى ما قد يستجد من عودة مموّهة أو هجمة مرتدة أو قفزة ممتدة لوجوه «ليست إخواناً لكن يحبونهم أو يحترمونهم أو يعضدونهم».

التعضيد الوحيد المطلوب والغائب هو ذلك الذي يطلبه الناخب. فلا حزب سياسياً يطرح برنامجاً فعلياً، ولا وجه مألوفاً يعرض خطوات تصحيحية، أو حتى قوائم محبوكة تقدّم بدائل لمشكلات حياتية. المثير أن مواطنين يعتبرون البرلمان المقبل «سد خانة» مقبولاً لمواجهة انتقادات الغرب لفراغ الحياة النيابية، أو نتيجة طبيعية لخواء الكيانات الحزبية، أو شراً لا بد منه مثل الزواج لاستكمال الوجاهة الاجتماعية.