التاريخ: آذار ١٨, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
نظرة ثانية في إشكالية الزواج المدني الاختياري
ابرهيم نجار
لماذا فشلت حتى الآن كل محاولات تقرير الزواج المدني في لبنان؟

الأجوبة عن هذا السؤال تراوح بين الموقف المتشدد للسلطات الدينية الإسلامية والمسيحية، وإصرارها على المحافظة على امتيازاتها، من جهة، والتذرع بأحكام الدستور التي تكرس بوضوح "إحترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية" (المادة 9)، من جهة أخرى. وقد تكرر في لبنان هذا الموقف الرافض منذ حاولت السلطة المنتدبة إدخال نظام قانوني للزواج المدني ولم تفلح، بعدما جُبِهت بقسوة. وهذا كان مصير المحاولات الأخرى اللاحقة، في كل عهد من العهود، كان أبرزها ردود الفعل على بعض التصريحات في الآونة الأخيرة. فلا بد من وضع بعض النقاط على الحروف إلتماساً للوضوح:

أولاً: إن الموقف الذي يصر على تقديم نظام الأحوال الشخصية على حرية الاعتقاد وإعطائه الأولوية هو ملتبس الى حد بعيد، لان الحريات الشخصية، وبصورة خاصة حرية المعتقد، هي "مطلقة"، و"تكفلها" الدولة و"تحميها" المادة 9 من الدستور أيضا. الحرية المطلقة هي التي تجيز تغيير الدين والمذهب، على ما هو مقرر ومستقر في الاجتهاد والنصوص منذ عشرات السنين. بل هي التي تجعل من الزيجات المختلطة ميزة بارزة في النظام اللبناني، أكان ذلك في لبنان، أم خارجه. فالحريات أساسية، لان لا انتماء ولا إيمان من دون حرية، ولا إكراه في الدين لدى كل الطوائف.

ثانياً: إن نظام الأحوال الشخصية هو من تراث المنطقة الشرق الأوسطية، منذ سقوط بيزنطية، فقد أُقرّ هذا النظام للحفاظ على حرية المعتقد والشعائر الدينية لغير المسلمين، "أهل الكتاب". وبالتالي، من المفارقة بمكان أن تجبه محاولة اختيار قانون ينطلق من الحرية الشخصية وحرية المعتقد بما يسمّى نظام الأحوال الشخصية. كذلك من اللافت فعلاً أن تتذرع بالنظام هذا الطوائف التي أفادت منه.

ثالثاً: لقد أحكم نظام الأحوال الشخصية في لبنان على عدد الطوائف التاريخية المعترف بها، فحددها ولا يمكن الإضافة إليها إلا بموجب قانون، كما حصل عندما تقرر إضافة الطائفة العلوية والطائفة القبطية، منذ بضع سنوات، ورفضت كل محاولات الشقاق والتقسيم التي تعرضت لها بعض الطوائف التاريخية.

بعبارة أخرى، لا انتماء الى لبنان ولا تسجيل لأي نسب أو هوية في السجلات الرسمية للأحوال الشخصية إلا إذا انتمى اللبناني إلى طائفة من تلك المعترف بها قانونا. فلا محل في لبنان رسميا للملحد، ولا لكل الطوائف الآسيوية وغير الآسيوية المستحدثة أو القديمة. ولا مفرّ لأجنبي يريد التجنس لبنانياً إلا أن ينتمي الى إحدى الطوائف المعترف بها. فإذا كان جائزاً عدم ذكر الطائفة على بطاقة الهوية، يبقى ذكرها ملزماً في السجلات الرسمية لدى دوائر النفوس. حرية المعتقد مقررة ومعترف بها ومصونة ومحمية شرط أن تكون مقيّدة بالنظام الطوائفي. هذه هي الحقيقة.

رابعاً: إن تسجيل الزواج المعقود أمام الكاتب العدل في سجلات الأحوال الشخصية الرسمية لا يكفي لينتج الزواج مفاعيله. فهكذا "زواج" لا يعدّل في قيود السجلات الرسمية للأحوال الشخصية، لان الزوج يبقى رب العائلة، خاضعاً لأحوال طائفته الشخصية في كل مفاعيل الزواج المالية وغير المالية. الاب السنّي يبقى خاضعاً، ومعه أولاده القصّر، للمذهب السني. والأم الشيعية تبقى خاضعة لنظام الأحوال الشخصية الذي يرعى عائلة "زوجها" السنّي. والعكس بالعكس.

بعبارة أوضح، إن تشريع تسجيل الزواج المعقود مدنياً أمام الكاتب العدل في سجلات النفوس، لا يغير شيئا في الأحوال الشخصية التي ترعى مفاعيل الزواج، طالما لم يقترن إقرار الزواج المدني بنظام كامل متكامل، يرعى كل مفاعيله المادية وغير المادية. لذلك، كان أن ارتأى البعض أنه لكي يكون للزواج المدني نظام متكامل، يتعين إقرار نظام قانوني شامل للعلاقات الزوجية بكاملها (فصل ذمة الزوجين المالية، الحضانة، السلطة الوالدية، الولاية، الاصطحاب، فسخ الزواج، بصورة عامة، الإرث والوصايا...). لكن كل المحاولات هذه إقترنت حتى الآن باقتراح أحكام غير إسلامية المنحى والمصدر، فجاءت بعيدة عن الشرع، واقتبست مثلا قانون الإرث الذي يرعى، منذ حزيران 1959، الطوائف غير "المحمدية" (كما جاء في عنوان القانون)، بحيث بدا مشروع قانون الزواج المدني مرعياً، عند اختياره، بأحكام مجافية للشرع. هذا كله ما يفسر نجاح الزواج المدني "اللبناني" في الخارج، وفشله في لبنان، لأن تلك القواعد لا تطبق على الزيجات المعقودة مدنياً في الخارج، لان هذه الأخيرة تخضع للقانون الذي يرعى مراسم الاحتفال بالزواج، بحيث يكون القانون القبرصي أو الفرنسي أو التركي أو الأميركي... هو الذي يحكم الولادة والنسب والطلاق والحضانة... إذا تم الاحتفال بالزواج المدني في نطاقه الجغرافي. وتبقى آثار الزواج المادية (المهر، فصل أموال الزوجين، الإرث، الوصية، الهبات) مرعية بالقانون الوطني اللبناني عندما يكون الزوجان لبنانيين. فقد بلغ عدد الزيجات المختلطة المعقودة في الخارج منذ العام 1975 حتى اليوم عشرات الآلاف (جريدة "النهار") وأثمرت عددا كبيرا من أولادٍ يفتشون عن مساحات توحد أو تجمع بعض معتقدات والديهما، رغم اختلاف مذهبهما او دينهما. وهذا ما يسهم الى حد بعيد في جعل تجربة التعايش اللبنانية مميزة في العالم.

وهنا يطرح تساؤل: لماذا لا نجيز في لبنان ما هو جائز خارج نطاق أراضيه ؟ لماذا لا نعطي مفاعيل قانونية للاختيار الحقيقي وحرية اللبناني، مع المحافظة على ما تقبل به الطوائف عندما يعقد الزواج في الخارج ؟

الزواج المدني الاختياري الحقيقي في المطلق هو الذي يتيح، وفقاً لأحكام الدستور، إختيار نظام الأحوال الشخصية الذي يتفق مع قناعات الزوجين في حقوقهما وموجباتهما غير المادية أو المالية. كأن يختار زوجان كاثوليكيان نظاما مطبقا لدى طائفة أخرى، لبنانية، مثلا، أو نظام زواج مدني مقرر في دولة أخرى، باعتباره هو النظام النابع من إرادة حرة لدى الزوجين، وفي حدود ما يتفق مع الانتظام العام المدني اللبناني.

وحده هذا الزواج هو الاختياري فعلاً. ولاننا نعي أن هذا الخيار لا يزال بعيد المنال، يمكن الركون الى حلٍ بديل موقتا، خروجا عن العموميات.

لكي لا يبقى الزواج المدني في لبنان محكوما عليه بالفشل، بخلاف الزواج المدني في الخارج، من الممكن ان نتفق على إعمال مفاعيل الزواج المدني المعقود في لبنان، مع اختياره بحرية من قبل الزوجين، تماما كما يقرر القانون والاجتهاد قبول مفاعيل الزواج المدني المعقود في الخارج.

فيكون للزوجين حرية:

1ــ إختيار القانون المطبق على مفاعيل الزواج غير المادية (الابوة، البنوة، الولاية، الحضانة، المشاهدة، الطلاق وفسخ الزواج، الخ...) وفقا للحرية المطلقة للزوجين، وشرط توافقهما على هذا الخيار.

2ــ إبقاء المفاعيل المادية للزواج (المهر، البائنة، الأموال بين الزوجين، الوصية، الإرث، الهبات) خاضعة لما تنص عليه القوانين المرعية الاجراء في لبنان.

بهذه الطريقة، لا نكون قد منحنا ميزة ومكافأة للذين يختارون السفر لعقد قرانهم، لأنهم قادرون على تكبد النفقات التي يتطلبها الانتقال الى الخارج وحرمنا الذين لا يستطيعون السفر الى الخارج لهذه الغاية، مما يخلّ بمبدأ المساواة أمام القانون، وجعلنا للحرية التي يصونها الدستور بعض المفاعيل العملية.