التاريخ: آذار ٧, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
يوم المرأة العالمي: أفكار جندرية خاطئة - فيصل القاق
يُراكم يوم المرأة العالمي شعاراته كمخزون ترميزي يحاكي التحولات والنضالات والإنجازات المستمرة في مسائل حقوق المرأة والجندر ومنع العنف بكل أشكاله. هاشتاغ الـ 2019 #balanceforbetter أو #التوازن للأفضل في السعي للتوازن الجندري في مختلف مجالات العمل العام والأحوال الشخصية بشكل مستمر. يدعو الهاشتاغ الشعار في مدلوله، الرجال الى جانب النساء ليقوموا بتمرين ايديولوجي وثقافي ولوجستي لتبنّي مفهوم التوازن وممارسته بدأً من دواخلهم وانتهاءً بفضاءات حياتهم المختلفة. هنا تفكيك المركّب النمطي عن ماهيات النساء ومشاعرهن وادوارهن وكذلك للرجال، مدخل ضروري (لكنه قد يكون غير كافٍ) لمنع التصورات المسبقة عن الفوارق الجندرية المسؤولة عن انعدام التوازن وتغييبه.

عقب تشكيل الحكومة اللبنانية لوحظ وجود نمطين من الفرح والإبتهاج فيما يتعلق بتوزير النساء؛ النمط الأول يتعلق بتعيين 4 نساء في مناصب وزارية والذي بدا بحق للكثيرين خطوة متقدمة نحو "التوازن الجندري" الحكومي، النمط الثاني الإفراط في الحبور كون أحد المناصب موقع وزاري "سلطوي" شكل دخولاً نسوياً بارزاً لقلعة "ذكورية". هنا مارس الشعور بالفرح والإنجاز "تمييزاً" جندرياً من قبل دعاة التوازن بناء على قوة ذكورية المركز أو الموقع التي تستلمه المرأة، حاجباً بذلك التغييب المر للمرأة وانعدام التوازن لحضورها في العديد من المواقع في السياسة والعلم والصحة وغيرها. يشبه ذلك خيار بعض الزميلات "المستهجن" التخصص في جراحة الدماغ او العظام والذي يخلق بلبلة وتردد عند المرضى كونها اختصاصات ذكورية صعبة "لا تلبق" للنساء ولا تتماشى مع ما تم تربيتهن عليه. يصلح ذلك في الهندسة والرياضيات والطيران وغيره.

منذ الآف السنين وما باتت الأدوار الجندرية تتحكم في لاوعينا ووعينا حول التنشئة والتدبير والعلم والعمل، سطوة البيولوجيا التطورية والإنجابية والسلوكية فعلت فعلها في حفر أدوار ومفاهيم يصعب محوها أو إزالتها. بدأ ذلك مع مجموعات الصيد البدائية وركون النساء في الكهوف قلقاتٍ على حماية اطفالهن ومخاطر عدم عودة الرجال. المستغرب استمرار هذا النمط من التوزيع الجندري بالرغم من تغير البيئة والثقافات والأفراد أنفسهم.

هيرتا آرتن، عالمة الفيزياء والرياضيات البريطانية، تم ترشيحها عام 1902 لزمالة الجمعية الملكية، لكنها لم تُنتخب كونها إمرأة!! لا تزال تلك العقلية تتحكم حتى الآن بعدم تربية وتشجيع البنات على دراسة العلوم، الأمر الذي لا يساعد في تضييق الفجوة الجندرية في العلوم والصحة قريبا أبداً. سيحتاج العالم ما بين 250 و350 سنة لردم تلك الفجوة في العلوم والتمريض كما تشير التوقعات.

وبينما جاء الهدف التاسع من أهداف التنمية المستدامة 2030 ليؤكد أهمية الإبداع والبحث والبنى التحتية المرنة والتصنيع، لا يزال عدد الباحثات أقل من 30 بالمائة، وفرص عمل الرجال في وظائف علمية خمسة أضعاف مقارنة بفرص النساء. يحدث ذلك في عصر الثورة الصناعية الرابعة حيث 70 بالمائة من وظائف المستقبل لم تنوجد بعد لطالبات وطلاب المدارس اليوم.

قامت مجلة لانسيت العلمية المرموقة بنشر عدد خاص عن النساء في العلوم والطب والصحة العالمية يحتوي على دراسات بحثية وتحليلات حول الفجوة الجندرية المستمرة والتحيز الواضح ضد النساء في مجالات الأبحاث والتحاليل والتقديمات الصحية والطبية والعلمية كذلك في فرص العمل والأجور في تلك المجالات.

كما وتشير الى النتائج والإنجازات المميزة التي قد تحصل اذا ما تواجدت المرأة في صناعة المعرفة وأعطيت فرصتها بشكل طبيعي دون تمييز. من الأهمية بمكان الإشارة الى تأكيد مجلة لانسيت على دور الأهل والعوامل الاجتماعية التربوية على تشجيع أو عدم تشجيع البنات من اختيار الاختصاصات العلمية المدرسية بداية.

كما وفي دراسات أخرى، تبين ان معظم الأبحاث الطبية تتركز حول الرجال ومشاكلهم الصحية، وأن ثلاثة أرباع الأبحاث الموجودة لم تدرس او تُحلل نتائجها بحسب الجندر أو تضيء على تأثيرات او تطبيقات النتائج على صحة النساء. تتوازى هذه الملاحظات مع نقطة جوهرية تتعلق بالتمييز ضد مقترحات الأبحاث المقدمة من النساء والتي لا تحصل على الدعم اللازم للقيام بالبحث او في نشره - ان حصل - بشكل متوازن مع أبحاث يقودها الرجال. الملفت هنا ان الابحاث التي تقودها النساء تبين غنى جندري وتنوع اكثر من مثيلاتها بقيادة الرجال. تظهر الأمثلة عديدة في علاجات ارتفاع الضغط وأمراض القلب والصحة الجنسية وغيرها والتي كانت مدفوعة من الرجال لا من النساء. التقط العلم والبحث متأخراً مشاكل النساء نتيجة تنامي الحركات النسوية والحقوقية والتي دفعت نحو توازن ما للاهتمام بصحة النساء، وان كان سيلتزم ذلك عشرات السنين.

بالرغم من الفجوة الجندرية الفاقعة، ساهم اندفاع النساء الى المدارس والجامعات وأسواق العمل بتضييقها، وأصبح وجود النساء في فضاء العمل أمراً ملحوظاً، بيد انه لا يزال بغالبيته مقتصراً على أعمال بمراتب متوسطة يصعدن منها الى المراتب الأعلى بوتيرة أقل بكثير مقارنة بالرجال.

هو عبء التاريخ والثقافات والأديان والسلطة وبطركة المجتمعات، ولن يستوي توازن الا باستمرار جهود العمل عليه في مختلف المجالات، لتبقى قناعة الأهل وقناعة المجتمع وقناعة السلطات ان هناك فائدة عالية ومناعة قوية وديمومة ناجحة اذا ما مارسنا التوازن في إدراكنا ووعينا وفي التربية والسلوك والفرص. السر ان نبدأ العمل على ذواتنا ومن حولنا والسر ان يكون الرجل نسوي التفكير عندها نتأكد ان التوازن للأفضل هو الخلاص.