التاريخ: تشرين الأول ٢٣, ٢٠٢٠
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
عن قطع الرؤوس في زمن «كورونا» - حسام عيتاني
لن تمر جريمة قتل الأستاذ الفرنسي صمويل باتي من دون آثار طويلة الأمد. إنها نقطة تحول في الموقفين الرسمي والشعبي حيال المسلمين المقيمين في فرنسا بل حيال الإسلام ذاته. اجتاح الغضب الشارع الفرنسي على الرغم من أن العمل الإرهابي هذا لا يُقارَن بهجمات سابقة من مثل قتل 86 مواطناً بواسطة شاحنة في نيس في 2016 والهجوم المُركّب على سان دنيس ومسرح باتاكلان في العام السابق الذي شهد أيضاً الاعتداء على مقر صحيفة «شارلي إيبدو».

اقتصار عدد الضحايا على الأستاذ القتيل لم يقلل من فظاعة الجريمة ومن الصدمة التي خلّفتها بين الفرنسيين. ويبدو من النوافل أن تسارع القوى السياسية المختلفة إلى توظيف العمل الإرهابي ضمن برامجها التي يبدو أن التشدد في مواجهة المسلمين، بمتطرفيهم ومعتدليهم، بات عنصراً مشتركاً بين الأحزاب على امتداد الطيف السياسي.

قطْع رأس المعلم الفرنسي جاء بعد أسابيع من الجدل حول سلامة التلامذة والأساتذة من الإصابة بوباء «كوفيد - 19» إذا عادت المدارس إلى عملها المعتاد وليس عن طريق التعليم عن بُعد وفي ظل الارتفاع الكبير في الإصابات بالمرض ووسط مؤشرات سلبية ترافق الاقتصاد بسبب «كورونا» والتي فاقمت التوتر الاجتماعي السابق على تفشي الوباء. فوق ذلك قرر الإرهابي الشيشاني الأصل أن الرد على تناول باتي للرسوم المسيئة للرسول الكريم لا يكون إلا بذبح الأستاذ. أضْفت الجريمة الإرهابية مسحة مرعبة على الوضع الصعب القائم. لقد وصل الموت إلى المدرسة التي يبدأ فيها الأطفال رحلتهم إلى العالم. فإذا كانت البداية مشهد قطع رأس المعلم، فكيف ستكون المشاهد التالية؟

لم تكن صدفة أن يربط الرئيس إيمانويل ماكرون في تصريحه من مسرح الجريمة بين «الإرهاب» وبين الإسلام. «الإرهاب الإسلامي» قالها مرتين في إشارة واضحة إلى المسلمين الفرنسيين وإلى خصومه السياسيين بأنه لن يسمح لا بتبرير الجريمة والتقليل من خطرها، ولا باستغلالها في المعارك الانتخابية على نحو مسارعة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، إلى محاولة القفز على الفرصة بتغريدة لها على موقع «تويتر».

لكن لنترك جانباً الشأن الفرنسي وصعود تياراته المعادية للأجانب وصراعاته وانتخاباته بل حتى الإجراءات التي ستتخذها السلطات في المستقبل القريب، ولننظر بهدوء إلى ردود الفعل على الجريمة التي صدرت من أوساط المسلمين المقيمين في الغرب أو في أوطانهم. لا مبالغة في القول إنها مشينة. ذلك أن كل إدانة للعمل الإرهابي تبعتها كلمة «لكن» فرّغت الإدانة من المضمون الأخلاقي وسعت إلى إيجاد المبررات والأعذار المخففة للقاتل.

بالإجمال حفلت مواقف المسلمين الأوروبيين بالخلطة المعتادة من فتح سجالات جانبية (لكن لم يكن على الأستاذ إثارة مسألة الرسوم المسيئة) والتهرب من المسؤولية بذريعة أن القتل «لا يمثل الإسلام الحقيقي»، من دون أن يتبرع هؤلاء بالإشارة إلى ماهية «الإسلام الحقيقي» الذي يدّعي كل مسلم في العالم أنه يحتكر الحق في تمثيله، من خليفة الدولة الإسلامية المزعومة أبي بكر البغدادي إلى آخر شيخ في أبعد قرية. لقائل أن يقول إن «الإسلام الحقيقي» هو ما اتفقت الأمة عليه. لكنّ هذا لا يربو على تفسير الماء، بعد الجهد، بالماء. فالأمة، في واقع الأمر، أمم متقاتلة ومتناحرة وتفسيراتها للإسلام شديدة الغموض والتناقض. والحقيقة ذاتها مفهوم فلسفي يحتاج إلى تدقيق وتمحيص عند كل استخدام، فكيف إذا تعلق الأمر بقضية الإسلام في عالم اليوم، حيث الحقيقة شديدة النسبية!
وإذا كانت الحقيقة، وفق تعريف نظرية التوافق لها (وهذه نظرية من بين العديد من المقولات حول طريقة الوصول إلى الحقيقة) هي تلاؤم القول مع الوقائع، فإن على المسلمين أن يعيدوا النظر في أقوالهم التي لا تتناغم مع واقعهم. ليس فقط لتجاهلهم أن إقامتهم في الغرب والعمل بكل الوسائل للجوء إليه، دليل التفارق الشاسع بين أقوالهم وأفعالهم، بل لرفضهم الرضوخ لحقيقة أن الخلافات وإن كانت عميقة من نوع الاعتراض على الرسوم المسيئة، لا تُلغي تفويض الفرد للمجتمع مهمة تحقيق العدالة. هذا المبدأ الذي تأسست عليه الدول، منذ قانون حمورابي وشدد عليه الإسلام الذي حرّم الثأر، أي تحصيل الفرد لحقه بيده وليس بيد الدولة والسلطة القضائية، يحيل إلى كارثة تتمثل في الموقف الملتبس – وهذا أقل ما يقال - للكثير من اللاجئين والمهاجرين المسلمين من المجتمعات والدول التي يقيمون فيها. لا تنفع هنا أنصاف الحلول: إما القبول بمنظومة العدالة التي ارتضاها مكان الهجرة وأقرها، وإما رفضها والتمرد عليها وتحمل التبعات.

من هنا نصل إلى التهريج الكامل لبعض الباحثين عن الأعذار من القائلين بضرورة أخذ الظلم والقهر الذي يتعرض له المسلمون في بلادهم (الشيشان في حالتنا هنا) في الاعتبار و«تفهم» الظروف التي حملت القاتل على ارتكاب الجريمة، أو أولئك الذين يقارنون بين «إرهاب صغير» يُرتكب في شوارع الغرب ومدنه و«إرهاب كبير» مارسه الاستعمار الغربي وما زال يمارسه بصيغ عدة على شكل شركات متعددة الجنسية و«رأسمالية متوحشة». الأمر ليس مقارنة كَمّية بل هو موقف من العالم المعاصر وحقائقه والقدرة على صوغ خطاب يتخلص من المظلومية واستمراء دور الضحية ويحض المسلمين على تحمل مسؤولية خياراتهم الصائبة أو الخاطئة ودورهم في العالم الذي يعيشون فيه.