التاريخ: تشرين الأول ١١, ٢٠٢٠
الكاتب:
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
كيف انقلبت الديمقراطية الليبرالية على نفسها
قبل بضعة أيام فجّر الصحفي الأمريكي المشهور توماس فريدمان قنبلة إعلامية مخيفة عندما صرّح أثناء مقابلة له مع شبكة «سي إن إن» بأنه بدأ حياته المهنية عندما غطّى الحرب الأهلية الثانية في تاريخ لبنان... وبأنه يخشى أن ينهي حياته المهنية بتغطية الحرب الأهلية الثانية في تاريخ الولايات المتحدة ! وعندما سأله الصحفي في القناة التلفزيونية : «هل تعتقد حقاً ذلك ؟»، أجابه فريدمان : «طبعاً» !

بالطبع هناك اختلاف كبير بين الوضع في البلدين؛ والمقصود بالمقارنة التي ساقها الصحفي الأمريكي هي للتعبير عن حجم المخاوف التي يشعر بها تجاه تطوّر الأحداث في الولايات المتحدة خلال الأسابيع القليلة المقبلة. لم يكن فريدمان الوحيد الذي عبّر عن القلق من إنهيار «النظام الديمقراطي الأمريكي». قبل عامين، «تنبأ» عالم السياسة الامريكي «ياشكا مونك» ب «سيناريوهات متشائمة» لتطور الوضع في ظل إدارة الرئيس ترامب التي «تعمل على تعميق الإنقسام الحزبي في البلاد» يساعدها في ذلك «استمرار إهتراء المبادئ الديمقراطية في المجتمع الأمريكي» الذي أصبح يؤمن قسم مهمٌ منه بأن وجود «المنقذ»، من امثال ترامب، أهم من احترام قواعد ومؤسسات النظام الديمقراطي ! وقد سبق أمريكا دول أخرى على هذا الطريق مثل بولندا والمجر وتركيا والبرازيل والهند؛ وهناك مؤشرات على ان دولاً أخرى ستلحق بهذه، وهي تلك التي يزداد فيها نفوذ أحزاب أقصى اليمين مع كل دورة انتخابية جديدة، مثل المانيا واسبانيا وفرنسا وبلجيكا. 

كيف وصلت الديمقراطية البرجوازية، في طورها النيوليبرالي، إلى هذا الضعف الذي ينذر بتحولها ، ربما بعد عقدين أو ثلاثة إلى دكتاتوريات مثل تلك التي تندّد بها اليوم ؟ !

تعود جذور هذا الوضع إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي عندما بدأ عصر النيوليبرالية الذي دشّنته مارغريت ثاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة من خلال «خصخصة» قطاعات انتاجية وخدمية مهمة كان يملكها القطاع العام (البريد، السكك الحديدية، الطيران، صناعة السيارات إلخ..).  كما بدأت الإدارات الحكومية تفقد إشرافها ورقابتها على قطاعات أخرى كالطاقة والنقل والتجارة الخارجية مثلاً بسبب لجوء الحكومة إلى إنشاء «مؤسسات مستقلة»، تحوّلت بهدوء وصمت واحتيال صلاحيات الوزارات المعنية اليها، وضعفت قدرة السلطة البرلمانية على محاسبتها أو حتى معرفة ما يدور  فيها. كممثلين أصيلين للنظام الرأسمالي، استشعر ريغان وثاتشر بوقت مبكّر طموحات وأطماع هذا النظام للتوسع والذي كان يتجه بخطواته الأولى نحو العولمة الإقتصادية. لم تعد «السوق الوطني» يلبي «طموحات» هذا النظام مع تواضع نسبة الإنتاج المخصص للتصدير إلى الخارج آنذاك. ساعد في ذلك أيضاً بصورة كبيرة الآفاق الهائلة التي فتحها تطور التكنولوجيا، خاصة تكنولوجيا المعلومات أمام ذلك النظام. 

هكذا أحدثت التحولات العميقة المذهلة للعولمة الاقتصادية التي تسارعت وتيرتها بعد انتهاء الحرب الباردة بحيث بقيت المؤسسات الوطنية ظاهرياً كما هي؛ لكن اختلالات كبيرة وقعت على صعيد صلاحياتها وأدوارها. والنتيجة ؟ لم تعد البرلمانات ذات هيبة وحضور مؤثّر، ولم يعد دورها قوياً كالسابق عندما كانت تراقب أعمال الحكومة وقراراتها (بإعتبارها هي التي كان لها اليد الطولى في الاقتصاد الوطني) وتتدخل ـ اي البرلمانات ـ حتى في الاتفاقيات الاجتماعية التي كانت تُبرم بين الحكومة والنقابات العمالية، على سبيل المثال. باتت مشاريع القوانين المتعلقة ب «المؤسسات المستقلة» تأتيها جاهزة ومليئة بتعقيدات فنية بحيث كانت البرلمانات تقرها بسرعة على مضض لئلا «تعيق» الإستثمار والتوسع الرأسمالي. فالسلطة العليا الحقيقية كانت بيد منظمة التجارة العالمية التي انشأت عام 1998 والشركات العملاقة العابرة للقارات. لم تعد سيارة «رينو» أو «تويوتا» تُصنّع فقط في فرنسا أو اليابان، بل أيضاً في إيران وتركيا والصين والولايات المتحدة والبرازيل. 

على صعيد آخر مهم جداً : هذه الرأسمالية المتوحشة والمنفلتة من عقالها (بعد انهيار معسكر البلدان الإشتراكية، العدو اللدود الخطر بالنسبة لها آنذاك) لم تعد تلائمها أفكار «عصر الأنوار» ومبادئ الثورة الفرنسية (الحرية، المساواة، الإخاء) التي غزت العالم في القرن التاسع عشر وحتى نهاية ستينيات القرن العشرين، وساهمت بطريقة غير مباشرة في تصفية الإستعمار الغربي واستقلال عشرات الدول في إفريقيا وآسيا. إذ لا بد للنيوليبرالية من ايديولوجية جديدة ـ أفكار «ما بعد الحداثة» لكي «تحررها» من تلك المبادئ «المزعجة»، وتبيح لها إدارة الظهر للقانون الدولي وللقانون الدولي الإنساني ولحق تقرير المصير للشعوب .. بحيث لم يبق سوى «قشرة» اسمها «حقوق الإنسان» تستخدمها النيوليبرالية لخدمة أغراضها السياسية والإقتصادية والإستراتيجية، يدلّ على ذلك ممارسات الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير التي اصبحت معها هذه «الحقوق» موضع ريبة وإزدراء شعوب كثيرة، بل موضع سخرية واستهزاء عندما «يثرثر» بها مسؤولون غربيون في المحافل الدولية أو أمام وسائل الإعلام.زيادة على ذلك، انقلب الوضع بحيث تم الإحتفاظ بحلف شمال الأطلسي وتوسيعه (بدلاً من حلّه بعد اختفاء نظيره «حلف وارسو» الذي كان يضم دول أوروبا الشرقية الإشتراكية آنذاك)، وذلك لكي يقوم الأطلسي بمهمات ما يسمى «التدخل الإنساني» حيثما تكون مصالح النظام الرأسمالي مهددة، خاصة في بلدان العالم الثالث وشرق أوروبا. 

أكثر من ذلك : ظهر منظرون وفلاسفة ليزودوا النيوليبرالية بأفكار وأطروحات تُنظّر ل «صدام الحضارات» والحروب الدينية (خاصة ضد الإسلام بزعم «الإرهاب»)، وتُعظّم من دور الدين والعرق والطائفة على حساب وحدة المجتمعات الوطنية والسياسية. وغزت هذه «الأفكار» الأوساط الأكاديمية ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام والفضائيات بحيث بات يصدقها مئات ملايين البشر ! وكان استغلال الدين قد بدأ عندما جنّدت المخابرات الأمريكية شباناً مسلمين للقتال «ضد الشيوعية الملحدة» في افغانستان عندما كانت تحتلها القوات السوفييتية أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات. 

هكذا انتقل العالم من «عالمٍ» كان الزعماء فيه من أمثال أيزنهاور وديغول وجمال عبد الناصر ونهرو لا يلجأون في خطاباتهم مطلقاً إلى الدين أو إلى عبارات ذات مضمون ديني أو أخلاقي (بالرغم من إيمانهم وممارستهم لدياناتهم).... إلى «عالمٍ» أصبح رئيس قوة عظمى ك «بوش» الأبن يقول ذات مرة بأن قرار غزو العراق جاءه «بوحيّ من الله»، وقبله أطلق الرئيس ريغان على الإتحاد السوفياتي (السابق) «امبراطورية الشر» (على اعتبار أن امبراطوريته تمثل الخير) !.... وبأن دعم إسرائيل والقضاء على الشعب الفلسطيني أمران ضروريان، من وجهة نظر قطاع مهم من الناخبين الأمريكيين، للتسريع ب«عودة ظهور المسيح على الأرض» ! وهناك خطابات شعبوية مماثلة لسياسيين أوروبيين. 

هل هذا هذيان أو خطاب مجنون ؟ ! أبداً، إنها الذرائع الأيديولوجية والسياسية الضرورية للنيوليبرالية، المتناقضة كلياً مع الخطاب الأيديولوجي القديم للرأسمالية، ووظيفتها أن تغطي على جرائمها البشعة ومحاولة إعطائها صبغة «شرعية»، ولكي تخفي استغلالها الذي فاق كل الحدود للشعوب، بما في ذلك شعوبها ، بدليل تركّز أكثر من 60 % من ثروات العالم بيد 1 % من سكانه، كما تشير إلى ذلك دراسات عديدة.

صاحب القرار في عالم اليوم لم تعد الحكومات أو البرلمانات أو الشعوب، بل منظمة التجارة العالمية والشركات العملاقة (غوغل، أمازون، أبل...) والطبقة العالمية المحدودة العدد المستفيدة منها في شتى مراكز الاقتصاد العالمي، خاصة الرقمي منه. لذلك ليس غريباً أن تشعر الشعوب، خاصة في دول «الديمقراطية الليبرالية» بأنها لا تملك من أمرها شيئاً، وبأن هذه «الديمقراطية» المزعومة، بالرغم من استمرار طقوسها الشكلية، لا تمت بصلة لمصالحها وقضاياها؛ وما هي إلاّ ستار تقف خلفه قوى أخرى تملك كل شيء وتتحكم عملياً بمصائر تلك الشعوب. وشيئاً فشيئاً أخذت قطاعات مهمة من تلك الشعوب ـ خاصة الطبقات ذات الوعي الطبقي المتدني ـ تميل إلى انتخاب أحزاب أو قوى يمينية شعبوية مستعدة للقبول بأي تقييدات للحريات العامة، بل وبإنتهاك دستور بلادها من اجل الإبقاء على تلك القوى الشعبوية في الحكم، إعتقاداً منها بأنها وحدها القادرة على حل أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. ولذلك، ليس من باب الصدفة أن يكون عنوان كتاب عالم السياسة الذي استشهدنا به مطلع هذا المقال هو «الشعب ضد الديمقراطية» ! وكانت استاذة أكاديمية بريطانية (نورينا هيرتس) قد نشرت كتاباً عام 2002 بعنوان «السيطرة الصامتة : الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية»، أصدرت سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية ترجمته العربية عام 2007.

خلاصة الأمر : إن ما يجري حالياً في الولايات المتحدة، بل وقبل ظهور جائحة كورونا، وما جرى في بعض الدول الأوروبية قبل سنوات بدرجة أقل من الضجيج الإعلامي، ليس وليد السنوات القليلة الماضية، بل هو «تتويج» لعملية (process) طويلة بدأت منذ عقود، ويُشكّل ظهور رؤساء مثل ترامب تطوراً منطقياً متوقعاً لتلك العملية التي قد تتطور نحو واحد من إتجاهين :  إما أن تضع القوى والطبقات الحريصة على هذه الديمقراطية الليبرالية نهاية لهذه العملية وتقوم بتصحيح المسار وترميم الأضرار السياسية والدستورية والقانونية التي نجمت عنها..... أو أن هذه العملية ستستمر إلى أن ينهار «النظام الديمقراطي الليبرالي»، مع ما سوف يجرّه هذا الإنهيار من صراعات و ربما حروب أهلية كتلك التي تحدث عنها توماس فريدمان...