التاريخ: شباط ٤, ٢٠٢٠
الكاتب:
المصدر: جريدة القدس العربي
للثورة المضادة “حكومة حرب” في لبنان
في سياق الثورة المضادة التي يقودها أطراف السلطة اللبنانية، تشكّلت في بيروت منذ أيام حكومة يمكن اعتبارها، رغم هامشية معظم أفرادها ورئيسهم (كأشخاص)، حكومة حرب ضد الانتفاضة. ذلك أن التحالف الذي أفضى إلى تشكيلها إنما أرسل عبرها عدّة رسائل داخلية وخارجية.

رسالته الأولى، أنه لا يرى الفرز السياسي في البلد رغم الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلا على أساس الفرز القديم بين معسكرَي 8 و14 آذار، وأنه بالتالي شكّل حكومة مرجعيتها السياسية قوى 8 آذار بقيادة حزب الله بهدف مواجهة الخصوم محلياً وكأن شيئاً لم يكن في الأشهر الأخيرة. والأهم أنه بفعله هذا إنما يدفع فعلياً بعض جمهور 14 آذار (وتحديداً جمهور تيار المستقبل) للنزول إلى الشارع تعبيراً عمّا يعدّه مظلومية سنيّة، فيربك بهتافاته واحتمالات صدامه مع قوىً أمنية أو مع بعض جمهور 8 آذار الانتفاضةَ الساعية إلى المحافظة على شعارها الأثير غير المُستثني أحداً من التشكيلات السياسية الطائفية التي حكمت لبنان بالتوافق أو الإكراه منذ العام 2005.

رسالته الثانية، أنه سيقبض على جميع الأجهزة الأمنية ليطوّعها خدمةً للثورة المضادة، وأنه فوّض اللواء المتقاعد والنائب الحالي جميل السيد القيام بالأمر. والأخير، صاحب الباع الطويل في العمل المخابراتي وأحد أبرز المسؤولين عن إدارة البلد في العقد السابق للعام 2005، يُعلن في عودته هذه عودةً إلى العام 1998 حين ترافقت سطوة الأجهزة اللبنانية والسورية على الحياة السياسية مع خطاب “إصلاحي- إنقاذي” ردّده يومها قائد الجيش المنتخَب رئيساً بانتهاكٍ دستوري، والمكلِّف رئيس حكومة لا يختلف كثيراً في هامشية دوره عن رئيس الحكومة الحالي (في ما عدا القدرة على التمنّع عن توقيع مشاريع قوانين أو الاعتكاف والمماطلة في اتخاذ قرارات). وهذا، وإن لم يُفرِح بعض خصوم السيد في معسكره نفسه (رئيس مجلس النواب نبيه بري تحديداً)، يمرّ بمعيّة حزب الله وبالوضع الاضطراري الضاغط على الجميع.

الرسالة الثالثة، أن حزب الله لا يمانع في طمأنة جمعية المصارف التي تمثّلت بأكثر من وزير في الحكومة، بعد أن بدا لفترة مشجّعاً على كلّ ما ينال منها ومن حاكم المصرف المركزي. وهذا يعني أن المصارف ستستمرّ في سياساتها الاستبدادية الراهنة تجاه معظم المودعين وأنها ستفاوض من داخل السلطة، وليس فقط من موقع الشراكة مع بعض مكوّناتها (ممّن استمرّ أو خرج أو أُخرِج منها)، لحماية نفوذها ومصالحها ومصالح كبار المودعين فيها وتقليص الكلفة التي سيتحمّلونها في أي محاولة لإدارة الانهيار المالي المُحتمل.

أما الرسالة الرابعة، فيوجّهها حزب الله إلى الخارج، ومفادها أنه ممسك بزمام الأمور في البلد، وأن لا تراجع في نفوذ إيران في لبنان بعد اغتيال قاسم سليماني، بل تقدّم أفضى إلى تشكيله وحلفائه الحكومة الجديدة. على أنه يترك في الوقت ذاته وزارة الخارجية لشخص (ناصيف حتي) ذي صلات عربية وغربية بحكم عمله السابق كسفير لجامعة الدول العربية في باريس وروما والفاتيكان. وهذا يعني أنه يُسلّم لغيره أمر البحث عن مساعدات اقتصادية ومالية وعن تواصل مع الأطراف الإقليميين والدوليين يجنّب لبنان القطيعة، تحت سقف ضوابط يفرضها أصلاً عبر انخراطه من خارج الحكومة في جبهات القتال الإيرانية في المنطقة.

في التحدّيات الجديدة للانتفاضة

في مقابل كلّ ذلك، تبدو خيارات الانتفاضة محصورة بِسبل تنظيم استمرارها وتصعيد ضغطها. فبعض العفوية والكثير من اللامركزية التي مثّلت عناصر قوتها في السابق لم تعد كافية اليوم، بعد انتهاء حال الارتباك الذي ساد دوائر السلطة الآفلة وتشكّل سلطة جديدة هي بمثابة إعلان حرب شاملة ضدها، ستجعل من تنويع الوسائل لمحاصرتها بالسياسة كما بالمزيد من القمع نهجاً رسمياً في المرحلة القادمة.

وهذا يعني أن ثمة حاجة للاتفاق على أولويات والوصول إلى صيغة تنظّم الاختلاف حول ما يصعب التوافق حوله.

في الشق الأول، لا شكّ أن الأوضاع المالية الاقتصادية هي اليوم الأولوية المطلقة وهي ما يتطلّب الاهتمام الرئيسي. فقضايا الإصلاح السياسي والاجتماعي ستظلّ برنامج نضال وكفاح تفرض تقدّمه أو تراجعه موازين القوى، وتتباين تجاهه الاجتهادات وتتنوّع، وفي ذلك ما يُغنيه ويحفّز أصحاب الطروحات فيه على البحث والسجال والسعي للإقناع وتوسيع دوائر الانخراط في الشأن العام. أما الأحوال المالية الكارثية التي أوصلت القوى المتعاقبة على السلطة لبنانَ إليها هدراً وفساداً وزبائنية وسوء إدارة وخيارات اقتصادية، فيمكن أن تُفضي إلى انفجار اجتماعي وإلى انهيار لا يتخيّل كثرٌ بعد حجمه ومؤدّياته. فالسيناريو الفنزويلي لم يعد بعيداً، وهو أسوأ بما لا يقاس ممّا يُثار كأمثلة عن سيناريوهات أرجنتينية أو يونانية محتملة. ذلك أن فنزويلا تشهد تضخّماً وانهياراً للعملة الوطنية ولقدرة أكثرية الناس الشرائية غير مسبوقة في التاريخ، ولا يبدو الخروج من أوضاعها الراهنة متاحاً في ظل أزمتها السياسية الحادة والتنازع على السلطة فيها والتجاذب الدولي حولها. وهذا ما لا يختلف كثيراً عن أحوالنا داخلياً وخارجياً. على أن السيناريو الفنزويلي ليس قدراً. فثمة سيناريو آخر، هو سيناريو البرتغال، يمكن أن يكون ضمن المُتاح أفقَ المعركة الإنقاذية مالياً. وهذا يتطلّب الضغط الواسع والمتواصل لتشكيل جسم مستقلّ ومختصّ يدير عملية لجم الانهيار ثم الإنقاذ، ويفرض على جمعية المصارف وعلى بضعة آلاف من المودعين الكبار (مالكي عشرات مليارات الدولارات) التنازل عن أجزاء من أموالهم (وفق قاعدة تصاعدية) بما يحمي متوسّطي المودعين وصغارهم ويحميهم هم أيضاً كما المصارف إياها من انهيار سيُفقد الجميع كلّ شيء (إلا القلة القليلة التي هرّبت أموالها إلى الخارج، والتي يمكن لآليات قانونية فرض استردادها أيضاً وإخضاعها لنفس الشروط). وثمة تقنيات وإجراءات لها عارفوها ومتابعوها في لبنان، وهي جُرّبت قبل سنوات قليلة وسمحت للبرتغال بالتعافي تدريجياً من أزمته الخانقة بعد العام 2011.

وفي الشق الثاني، أي ما يخصّ تنظيم الاختلاف حول أساليب عمل لا توفّر اليوم إجماعاً ولا تُبرز أكثرية واضحة، يجدر بالأفراد والمجموعات المؤثّرين في تنظيم التحرّكات وضبط إيقاعها البحث عمّا يردم الهوّة المتعاظمة بين نابذي كلّ أشكال العنف، وبين المدافعين عن عمليات التكسير في بعض المواقع (واجهات مصارف وشركات وبعض المحلّات الفخمة في وسط العاصمة) ومواجهة قوى الأمن القمعية بالعصي والحجارة والمفرقعات. فلكلّ اعتباراته ومشروعيّتها، وليس صحيحاً أن لا وجاهة في الدعوات لتفادي العنف حرصاً على سعة المشاركة الشعبية في المظاهرات والاعتصامات وخوفاً من خروجه عن نطاق السيطرة. كما ليس دقيقاً أيضاً تناسي أن تجذير التمرّد وإبقاء وتيرة الضغط على السلطة وأجهزتها في لحظات تراجع زخم المظاهرات والاحتشادات في الشارع لأسباب عديدة، يُلزم قطع طرقاتٍ ومحاصرة مصارف ومؤسسات إذلالٍ للناس، ويفرض أحياناً بقاءً حصرياً لشبّان وشابات في الشارع تستسهل القوى الأمنية وبلطجيّتها مهاجمتهم فيعمدون عن حقّ للدفاع عن أنفسهم وللردّ تحطيماً وتكسيرا.

هل يمكن إذاً الوصول إلى صيغة تحمي استمرار الانتفاضة بمشاركة شعبية واسعة وبضغط يرافقه اتفاق على النموذج الإنقاذي المالي؟ وهل يمكن ضبط حدود “العنف الثوري” ومواضع قطع الطرقات دون تخويف جزء كبير من جمهور الانتفاضة وإخراجه من الشارع؟ وهل من سبيل للتفكير بكيفية التصدي لأساليب السلطة الترهيبية والترغيبية التي ستتكثّف في المرحلة المقبلة؟ تلك ربّما بعض من الأسئلة الملحّة اليوم. ولا شكّ أن طرحها أسهل من تقديم الإجابات عنها.