التاريخ: أيار ١٨, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
ساسة دمشق أعضاء في الماسونيّة كتاباً لسامي مبيض
رئيسان للدولة و11 رئيساً للحكومة و3 وزراء للخارجية
عبد الرحمن مظهر الهلوش
قيل الكثير من الروايات عن الماسونية وتاريخها في دمشق، بعضها قصص واقعية ودقيقة، وبعضها الآخر كان من نسج خيال الدمشقيين. يكشف الباحث سامي مروان مبيض في كتابه "شرق الجامع الأموي، الماسونية الدمشقية 1868 - 1968"، لدى "رياض الريّس للكتب والنشر"، الكثير من الأسرار والأسماء لشخصيات لها وزنها السياسي والاجتماعي في المجتمع السوري، وللوهلة الأولى يُصاب القارئ بمفاجأة من العيار الثقيل عندما تبدأ الأسماء المنظّمة لتلك المحافل بالورود تباعاً في الكتاب.

كانت الماسونية تاريخياً عبارة عن أخويّة ذات أسرار، علمانية الهوى وباطنية المنشأ متاحة للرجال فقط، بالرغم من دخول النساء إلى بعض المحافل في أوروبا والولايات المتحدة في نهايات القرن التاسع عشر. لكن الماسونية كانت دوماً في سوريا والبلدان العربية حكراً على الرجال، وعلى العضو الجديد أن يجتاز مرحلة القبول ليصبح "بناءً مبتدئاً". عليه أن يرتدي المريول الأبيض الذي يدلّ على الصفاء وأولى درجات العمل لدى الحرفيين والبنّائين. وتكون صلاحياته محدودة، حيث لا يحق له تنظيم أعمال خيرية، ولا يحق له التصويت، فقط حضور الاجتماعات الدورية.

في دمشق، لا تقلّ قائمة الماسونيين السوريين إبهاراً عن نظيرتها في لندن وواشنطن وباريس، حيث وصلت الماسونية العالمية إلى العاصمة السورية في نيسان 1868 عبر ماسوني أميركي يدعى روبرت موريس؛ جاء إلى سوريا العثمانية لإنشاء أول محفل في عاصمة الأمويين. كان روبرت موريس شاعراً وكاتباً. وصل إلى دمشق قادماً من ولاية بوسطن الأميركية، حيث استقبله والي المدينة العثماني محمد رشيد باشا الذي كان أيضاً ماسونياً مثله، وأحضر روبرت معه مبلغ ألف دولار لتأسيس أول محفل فيها لتعريب الماسونية عبر أبنائها، معتبراً أن جميع أسرار العالم القديم ورموزه موجودة في دمشق، التي وصفها بـ"لؤلؤة الشرق" وأن في دورها وقصورها "غبار ألف جيل من البشرية". بناءً على تعاليم البنّائين الأحرار وأعرافهم، فإنّ جميع المحافل في العالم يجب أن تقع شرق المدينة الحاضنة لها، لأن الشمس تشرق من الشرق لتضيء النهار، ورئيس المحفل يجلس في الشرق لتشغيل المحفل وإدارة رعيته.

قبل مئة عام تقريباً، كانت الماسونية ذات شعبية كبيرة في سوريا، ضمّت بين صفوفها معظم الآباء المؤسسين للدولة السورية، الذين كانوا من خلفيات متنوعة علمياً وعائلياً، عملوا معاً على وضع رسالة موجهة إلى المحفل الإنكليزي، طالبين صك براءة لتشغيل محفلهم المحلي الأول، دون ذكر اسم له. وكان من بين الذين حضروا ذلك الاجتماع القنصل الأميركي في دمشق ناصيف مشاقة، أحد أعيان المسيحيين، ومحمد علي محاسن، أحد أعيان المسلمين ومعه الأميران محمد ومحيي الدين الجزائري، ابنا الثائر الجزائري الأمير عبد القادر، الذي انضمّ إلى البنائين الأحرار في مصر عام 1864، حيث استقبل روبرت موريس في داره بزقاق النقيب خلف الجامع الأموي بحيّ العمارة، بالقبضة الماسونية الشهيرة.

دخل أعيان دمشق وساستها الماسونية لأنهم من نخبة القوم، أحد عشر من رؤساء الوزارة السوريين في عهد الانتداب الفرنسي وبداية الاستقلال كانوا من الماسون، ومعهم ثلاثة من وزراء خارجيتها، وعلى الأقل اثنان من رؤساء الدولة، الزعيم فوزي سلو والعقيد أديب الشيشكلي. نخبة القوم من ساسة وأعيان كل من سوريا ولبنان في الأربعينات والخمسينات كانوا أيضاً من عشيرة الماسون. ومن الأعضاء النافذين في الماسونية الدمشقية، أمير الحج الدمشقي ورئيس مجلس الشورى عبد الرحمن باشا اليوسف، الذي دخل في العشيرة الماسونية من خلال أحد محافل عاصمة الخلافة العثمانية (الإسلامية) عام 1909. وكان في الوقت نفسه قائداً وحامياً للحجاج الدمشقيين خلال مسيرتهم الشاقة من دمشق إلى مكة المكرمة. وأكد اليوسف انتماءَه إلى الماسونية من خلال نقشها على حجر في قصره العريق بحيّ سوق ساروجا خارج أسوار مدينة دمشق القديمة.

أمّا أبرز المحافل الماسونية في دمشق فتتبع إمّا إلى مصر ومن ثم لندن، أو إلى محافل غير نظامية تركية. ومن المحافل المحلية، "قاسيون" و"سوريا"، فقد أسسه الشرق الأعظم الفرنسي في مقر موقت بحيّ سوق ساروجا عام 1924، و"نور دمشق". وتأسس المحفل "السوري الأكبر" في شارع الملك فؤاد بدمشق عام 1953. وكانت تلك المحافل مرخصاً لها ومسجلة في سجلات الدولة، تدفع الضرائب دورياً مثلها مثل أي حركة أو جمعية أو حزب، ومن الأعضاءِ الدمشقيين لتلك المحافل، الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، رئيس الحكومة جميل مردم، فارس الخوري، حتى أنّ الرئيس شكري القوتلي استقبل وفداً ماسونياً مصرياً في قصر المهاجرين بدمشق قبل مغادرته الحكم بأيام. وقام الماسون بإرسال برقيات رسمية إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر ما بين 22-25 شباط 1958. وأيضاً حسني البرازي ولطفي الحفار وحسن الحكيم وسعيد الغزي وعطا الأيوبي، كانوا أعضاء في العشيرة الماسونية. أمّا الحاج بدر الدين الشلاح رئيس غرفة تجارة دمشق (1908 - 1999)، الرئيس الأعظم لمحفل إبراهيم الخليل التابع لمحفل نيويورك الأكبر، فاعترف علناً بانتمائه للماسونية من طريق البروفسور الأميركي والتر أدامز المدرس في كلية الطب في الجامعة الأميركية حيث بقي هذا المحفل الدمشقي نخبوياً ولم يقبل أكثر من 80 شخصاً من علية القوم. وكان الشلاح قد نشر صورتين له بوزرته الماسونية ومريوله الملون، ضارباً عرض الحائط بما سيقال عنه في المجتمع الدمشقي. يُذكر أنّ الشلاح كان ينشط في العمل الخيري في بناء المساجد من العاصمة دمشق حتى مدينة القامشلي آخر نقطة في شمال شرق سوريا، وهذا من المفارقات ما بين الانتماء إلى الماسونية والمساهمة في الأعمال الخيرية. ومن الأعضاء النافذين في الماسونية السورية الصحافي والمناضل نجيب الريّس، والد الصحافي الشهير رياض الريّس، الذي طُرِدَ طرداً نهائياً من العشيرة. لم يردّ الريّس طوال حياته المهنية على طرده من الماسونية، ومات سنة 1952 دون أن يعرف أحد عن ماضيه الماسوني شيئاً. ومن لبنان هناك أسماء بارزة دخلت إلى البنائين الأحرار أمثال الأمير شكيب أرسلان، رئيس الوزراء اللبناني سامي الصلح، المنتمي إلى "محفل سوريا ولبنان"، وأنطون سعادة رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي ورياض الصلح رئيس الوزراء اللبناني. ولكن الغريب هنا هو أن تلك الشخصيتين، سعادة والصلح، تمثلان توجهاً مختلفاً في السياسة اللبنانية. كيف لماسوني لبناني رفيع (الصلح) أن يأمر بإعدام ماسوني آخر (سعادة)، من الرتبة الماسونية نفسها؟!

إلى مائدة كوهين

كان عقد الستينات قاضياً بالنسبة إلى الماسونية الدمشقية، حيث قررت السلطات السورية في عهد الرئيس محمد أمين الحافظ حظر أنشطة الماسونية، بعد غياب أساطينها، إمّا بسبب الموت أو التقاعد أو التهميش السياسي، وجاء قرار الحظر بعد الكشف عن الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي عمل وعاش في دمشق مدة أربع سنوات، وكان الرئيس أمين الحافظ ينوي تعيينه وزيراً في الحكومة السورية، حيث مساء كل يوم خميس كانت نخبة القوم تجتمع إلى مائدة كوهين العامرة، من ضباط وأعضاء لبعض الأحزاب السياسية ومثقفين وغيرهم. لكنه أُعدِمَ في ساحة المرجة بدمشق يوم 18 أيار 1965.

اختلف المؤرخون حول الماسونية الدمشقية ودورها في سوريا. في الحقيقة حتى اليوم لا يستطيع أحد أن يجزم بمعرفته الدقيقة بتاريخ الماسونيين في سوريا، فمعرفة الحقيقة كاملة لا يمكن الوصول إليها، ومن هنا يتحمّل الماسون الدمشقيون اللوم لأنهم لم يقولوا شيئاً عن أنفسهم، بل تركوا الباب مفتوحاً أمام الاجتهادات والاتهامات. وهل كان الماسون الدمشقيون رجالاً أفاضل يسعون لتطوير مجتمعهم، أم أنّ الماسونية استخدمتهم لتحسين صورتها في المشرق العربي؟

صحافي وكاتب سوري