التاريخ: أيلول ١٩, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مسالك التحول من الإسلام السنّي المخيف إلى كل الإسلام الخائف - محمود حدّاد
كان بروز تنظيمات إسلامية جهادية سنية مسلحة في سوريا والعراق وليبيا خلال العقد الماضي، بغض النظر عن الجهة أو الجهات التي سلحتها وموّلتها، قد أطلق موجة من الخوف، بل الذعر عند المواطنين المسلمين وغير المسلمين من ممارسات مستهجنة وتمتاز بالتوحش البدائي غير المعروف في التاريخ العربي المعاصر مما أدى إلى نمو ظاهرة الإسلاموفوبيا خاصة عند غير المسلمين العرب أو الذين يعيشون في العالم العربي. ثم ضجت وسائل الإعلام بالحديث عن ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية. وقد برزت هذه الظاهرة لأسباب أيديولوجية وسياسية في آن واحد. فالثقافة الغربية السائدة، منذ القرون الوسطى، معادية للإسلام و للمسلمين وتعتبر أنًّ عليها التخلص من هذين الضيفين الثقيلين اللذين كانا ينافسانها في آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا. وقد ازدادت حدة هذه الايديولوجية بعدما أضيف العامل السياسي في عصر الاستعمار منذ القرن الثامن عشر حتى العشرين، إذ كان من المحتم اصطدام الحركات الوطنية المنادية بالاستقلال بالآلة العسكرية والسياسية الأوروبية التي جعلت نفسها وصية على بلاد آسيا وافريقيا التي صودف أن أغلبيتها أو جزءاً وازناً من سكانها يتبع الدين الإسلامي. فكان العداء للاسلام والخوف منه جزءاً من العداء لحركات التحرر وثقافة وأديان السكان المستَعمرَين (بفتح الميم).

إلا أنَّ الإسلاموفوبيا الأوروبية المعاصرة شهدت انعطافة مهمة خلال العقدين الماضيين إذ أدى نزوح الآلاف من المسلمين وغير المسلمين من مناطق الصراع المسلح في الشرق العربي وافريقيا إلى زيادة المهاجرين إلى أوروبا وبصورة فاقت التوقعات. وقد أصبحت نسبة المسلمين القاطنين في بعض دول أوروبا الغربية تتراوح بين 10-15 بالمائة وهي نسبة عالية (خاصة وأنهم يتركزون في مناطق بعينها) أدت إلى ردود فعل شعبوية معادية حادة في المانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا، خاصة وأنَّ أغلبية المهاجرين الجدد أتوا من بيئات شعبية سنية فقيرة وغير متعلمة ورافضة التأقلم مع الثقافة الأوروبية وكذلك مرفوض تأقلمها من قبل الأوروبيين أنفسهم الذين اعتبروا وجودها بمثابة غزو ديموغرافي غير مقبول. فلا القادمون يريدون الاندماج الثقافي في مجتمعات أوروبا، بل يصرون على تأكيد هويتهم الذاتية بفجاجة في بعض الأحيان، كما أنَّ لا دول ولا مجتمعات أوروبا تعطيهم فرص عمل تحفزهم على الاندماج الاقتصادي والاجتماعي. ولعل هذه الصورة كانت مختلفة عما حصل مع المجموعات المهاجرة من شرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته في 1989/1991 فعلى الرغم من الصعوبات السوسيولوجية بين الطرفين، فان التقارب الثقافي والديني وكذلك امتلاك عمال شرق أوروبا مهارات صناعية متنوعة، جعل من الممكن استيعاب هؤلاء بسرعة نسبية.

التخويف بالإسلام

على كل الأحوال، جمعت أوساط أوروبية سياسية وعنصرية بين الضغط الديموغرافي للقادمين المسلمين الجدد وبين عقيدتهم الدينية وثقافتهم لتعلن أن هناك علاقة بين ماهو سوسيولوجي وما هو ديني ونشرت ثقافة "الإسلاموفوبيا " أي الخوف من كل ما هو مسلم أو إسلامي في أوروبا.

أما في الولايات المتحدة الأميركية، فان الديموغرافيا لم تسهم في إطلاق موجة الإسلاموفوبيا؛ لأنّ نسبة المسلمين في هذه الولايات الشاسعة منخفضة، لكنها نشأت لأسباب سياسية/عسكرية بعد أن ضرب تنظيم "القاعدة" الجهادي نيويورك وواشنطن في 11/9 قبل ثمانية عشر عاماً رداً على السياسة الأميركية في أفغانستان على الرغم من التحالف السابق في الثمانينيات بين الطرفين ضد الاتحاد السوفياتي. وكان لهذا الحدث وقع المفاجأة الصادمة عند الأميركي العادي الذي لم يشهد قبلاً من يدمر بعض مبانيه ويسدد ضربة عسكرية إلى رموز تفوقه الاقتصادي والعسكري في عاصمتيه المالية والسياسية. وبهذا المقياس، كان لهذه الضربة وقع سيكولوجي يشابه أو يفوق وقع الهجوم الياباني على بيرل هاربر البعيدة عن البر الأميركي في 7 كانون الأول/ ديسمبر 1941 خلال الحرب العالمية الثانية.

ولم تشهد كندا وأوستراليا وغيرهما من البلدان القليلة السكان نسبيا والمرحبة بالهجرة والمهاجرين، من الطبقة الوسطى والوسطى العليا، ظواهرالاسلاموفوبيا العالية النبرة عموماً ربما بسبب غياب العاملين السياسي والديموغرافي. إلا أن الأمر لم يخلُ من بعض الاستثناءات، لأن الثقافة الأوروبية المعادية للإسلام والمسلمين موجودة بين السكان ذوي الأصول الأوروبية في ما كان يُعتبر المستعمرات البريطانية البيضاء. والمثال على ذلك حادثة مقتل أكثر من خمسين من المصلين المسلمين في مسجدين أثناء صلاة الجمعة في تشرش تاون في نيوزيلنده منتصف آذار 2019.

أما في المشرق العربي، فإن بروز الثورة الإيرانية وتوسعها في الإقليم الغربي إلى الشرق منها جعل لأيديولوجيتها الشيعية المكانة الأولى في العراق و سوريا ولبنان. لم يتم إتهام طهران وأذرعتها العسكرية المنتشرة بالتعصب والإرهاب، بل كانت هذه أوصاف جرى إحتكار استخدامها باصرار في تحديد هويات التنظيمات السنية المهزومة عسكرياً. وبالتالي خفت الوزن الإسلامي السني في منطقة القلب العربي، خاصة و أنَّ مصر والسعودية مشغولٌ كل منهما بمشاكله الذاتية: مصر بمعضلاتها الإقتصادية والسعودية بالحرب مع الحوثيين في اليمن. هكذا سيطرالنفوذ الإيراني على المشرق العربي وأصبح الطريق من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت سالكاً و لو إلى حين وحتى الآن.

خوف سني- شيعي مشترك مع نهاية "العدو المشترك"

إلا أنًّ تطوراً هاما لم يكن في الحسبان ظهر أيضاً في السنوات الماضية، ألا وهو انطلاق ظاهرة الخوف من كل الإسلام (السني والشيعي) ومحاربته خارج العالم الغربي وفي أماكن بعيدة عنه أي في شرق آسيا تحديداً. وقد بدأ الأمر مع صراع روسيا الدامي مع مسلمي الشيشان وتدمير موطنهم ثم أخيراً مع تهجير مسلمي الروهينجا من ميانمار (بورما) في 2015 وبأعداد بلغت نحو مليون شخص وتبع ذلك قيام الحكومة الصينية بوضع الأقلية المسلمة الموجودة غربي البلاد المعروفة بالايغور في معسكرات مغلقة بحجة إعادة تثقيفهم وتعليمهم مبادىْ الدولة الصينية القومية ونزع الإسلام وطقوسه عن معتقداتهم. ثم جاءت الضربة الأخيرة بقيام الحكومة الهندية ذات التوجه القومي الهندوسي المتطرف بالغاء الحكم الذاتي لولاية جامو - كشمير ذات الأغلبية الإسلامية ووضعها تحت الحكم المركزي دون الاعتراف بخصوصيتها وذاتيتها التي حصلت عليها منذ أكثر من سبعين سنة.

وتستأهل الظاهرة الآسيوية الأخيرة وقفة خاصة. فبعد الحرب العالمية الأولى، وقبل نحو قرن كامل من الزمن، أطلق الكاتب الأميركي المعروف حينها، لوثرب ستودارد، نظريته المشابهة لنظرية صاموئيل هانتنغتون، التي برزت في تسعينيات القرن و تتحدث عن "صراع الحضارات". إلاّ أن ستودارد ركز، بدلاً من ذلك، على "صراع الأعراق" واعتبر أن العرق الأبيض القائم على استعمار العالم غير الغربي والمتفوق على بقية الأعراق من سوداء (في افريقيا) وسمراء ( عرب ومسلمون) وصفراء( صينيون ويابانيون) يجابه خطرا كبيراً بعد الحرب العالمية الأولى. وكان ذلك ناتج برأيه عن أن العرق الأبيض يمثل " عدواً مشتركاً" لدى الأعراق التي ترزح تحت حكم ذلك الاستعمار الأبيض أو "الحضارة" البيضاء حيث كان يفضل استخدام هذا التعبير. بالتالي، فإنّ التحالف بين عرقين أو ثلاثة من تلك الأعراق المتميزة بكثرة السكان وزيادة المواليد، يضع العرق الأبيض المستعمر(بكسر العين) في موقف دفاعي يؤدي في النهاية إلى هزيمته ونهاية الاستعمار العالمي الذي يفيد البشرية جميعها حسب رأي ستودارد.

وبالفعل، وبدون الموافقة على نظرية الكاتب الأميركي حول الأعراق، فإنّ مساهمة الأقليات المسلمة في حركات التحرر الوطني في آسيا أكسبها صداقة الأغلبية سواء أكانت دينية أم عرقية أم أيديولوجية. من هنا نفهم أن المثقف الوطني الصيني المشهور، صن - يات - صن عبر عن شكره لمسلمي الصين لمساعدتهم إخوانهم في الوطن في حرب تحرير البلاد. كذلك كان الزعيم الهندي المسالم المهاتما غاندي، صاحب نظرية اللاعنف، على صلة وثيقة بكل عناصر مجتمع شبه الجزيرة الهندية وكان يهتم اهتماماً خاصاً بالمسلمين ويحرص على مساندتهم واعتبار أنَّ الأخوة الهندوسية - الإسلامية ستأتي للهند –كل الهند- بالاستقلال عن التاج البريطاني. وقد رفض غاندي بشدة إقامة دولتين واحدة للأكثرية الهندوسية ( الهند) و أخرى للأقلية المسلمة (باكستان)، إلا أنّ محمد علي جناح، (محام ومؤسس دولة باكستان) أصر على أن المسلمين مضطهدين في شبه القارة الهندية وأعلن، في 14 آب /أغسطس 1947 استقلال أقليم باكستان وإقامة دولة غربي البلاد. مع هذا الإعلان سادت الاضطرابات في الهند، وبدأت حرب طائفية راح ضحيتها الآلاف، واعتبر غاندي هذه الحرب كارثة وطنية، ونادى بوقف الحرب التي نشبت بين الهند وباكستان على إقليم كشمير الحدودي.اعترف غاندي باضطهاد الأقلية المسلمة في الهند، وأخذ يدعو إلى إعادة الوحدة الوطنية بين الهندوس والمسلمين طالبا من الأكثرية الهندوسية احترام حقوق الأقلية المسلمة. ولم ترض الجماعات الهندوسية المتشددة بمقترح غاندي، واعتبرت دعوته خيانة عظمى، وبالفعل اختار شخص هندوسي يدعى ناثورم جوتسى يوم 30 يناير/ كانون الثاني 1948 وأطلق ثلاث رصاصات قاتلة استقرت في صدر المهاتما غاندي. إلا أن العلاقات بين الهندوس والمسلمين شهدت هدوءاً نسبيا بعد ذلك بقيادة رفاق غاندي من نهرو ابنته أنديرا ثم احفاده في حزب "المؤتمر" إلى أن قويت النزعة الهندوسية المتشددة ثانية وقامت بنزع الاستقلال الذاتي عن ولاية كشمير الهندية ذات الأغلبية المسلمة الشهر الماضي.

وهكذا يكون غياب العدو المشترك بعد نهاية عصر الإستعمار أحد العناصر الرئيسة في خلخلة العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أبناء أوطانهم شرق آسيا. وأصبح اضطهادهم ممكناً اليوم باستخدام نفس الحجة التي يستخدمها الغرب عندما يطلق عليهم صفة التطرف والتعصب دون البحث في الأسباب التي تجعل الإسلام يشعر أنه تحت الحصار إن في الغرب أو في الشرق.