التاريخ: أيلول ٢, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
الحذر الإسرائيلي من شبح التسوية - سام منسى
لعل البحث عن دوافع الضربات الإسرائيلية الثلاث في العراق ودمشق ولبنان (ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع)، أكثر إلحاحاً من محاولة توقع ردة فعل «حزب الله»، التي قد تتراوح بين سيناريوهين هما الرد الواسع، أو عدم الرد، وهما الأقل ترجيحاً، أو سيناريو الرد المحدود المؤجل، وهو الأكثر ترجيحاً، لا سيما وسط ما نقلته مصادر عن أمينه العام من أن الحزب «لن يستعجل الرد»، وأن هذا الرد لن «يستدعي حرباً» (حدث رد محدود أمس - المحرر). 

فالطرفان لا يرغبان في حرب واسعة النطاق تفقد من جهة «حزب الله» المكاسب المزعومة التي حققها في سوريا، وتهدد من جهة أخرى حظوظ بنيامين نتنياهو في الفوز في انتخابات تكتسب أهمية خاصة لمستقبله السياسي.
المؤكد أولاً أن هذه الضربات استهدفت وكلاء إيران وأجهزتها في المنطقة، وتدخل في إطار الحرب الكامنة بين تل أبيب وطهران، وعنوانها الرئيس منع «حزب الله»، وحلفاء إيران عامة، من امتلاك صواريخ دقيقة، ومن إقامة مرافق لتصنيعها أو تجميعها. والمؤكد ثانياً أنها تؤشر إلى تغيير إسرائيل لقواعد اللعبة في حربها هذه، إن لجهة توسيع نطاقها الجغرافي أو لجهة تزامنها. والمؤكد ثالثاً أنها سبقت بفترة زمنية، لا تذكر، اللقاءات التي عقدها وزير الخارجية جواد ظريف على هامش قمة الدول السبع G7))، وما تلاها من أجواء وتصريحات دافئة بين الجانبين الأميركي والإيراني، ومناخات تمهد الطريق للقاء قد يحدث بينهما، لا سيما بعد كلام الرئيس الأميركي عن أن إيران لم تعد كما كانت في بداية ولايته الراعية الأولى للإرهاب.

ما الذي استدعى هذا التطور في خطط إسرائيل، وممارساتها، لجهة الوجود الإيراني المتمدد والمتجذر في المنطقة؟

ليس خافياً أن إسرائيل تعتبر التوسع الإيراني خطراً وجودياً عليها، وهي لن تسمح بأن تحاط بزنار إيراني يمتد من العراق فسوريا ولبنان وصولاً إلى غزة. وبمعزل عن موقف إسرائيل من الحرب السورية نفسها منذ اندلاعها، وعدم تدخلها لإسقاط نظام الأسد، باتت تحركاتها الميدانية التي تستهدف الوجود العسكري الإيراني في سوريا علنية ومتصاعدة منذ أكثر من سنة، إذ تشير الأنباء إلى أنها نفذت نحو 250 عملية عسكرية في سوريا. لكن ضرباتها بقيت مدروسة بسبب الوجود الروسي في سوريا، وعدم رغبة إسرائيل أو قدرتها على افتعال حرب كبيرة أخرى في المنطقة، لا سيما بعد تعهد موسكو بلجم النفوذ الإيراني في سوريا، عامة، وفي جنوبها خاصة. إلا أن خيبة إسرائيل كانت كبيرة حين أخذت المصالح الإيرانية الروسية، التي تتخطى سوريا، الأولوية في أجندة موسكو، فلم تعارض الضربات الإسرائيلية، لكنها في المقابل لم تف بتعهدها ذاك، وهي المدركة أن النفوذ الإيراني في سوريا متغلغل في مفاصلها كدولة وكمجتمع، ويتخطى الوجود العسكري.

أما الخيبة الثانية والأهم لإسرائيل، فهي استشعار قادتها بالتوجهات الأميركية التي عبرت عنها تصريحات ترمب الدافئة تجاه إيران، وتأكيده استعداده للقاء الرئيس الإيراني، وقد يكون في هذه المواقف قدر من المناورة وقدر من الجدية. فجاءت الضربات ضد وكلاء إيران وأجهزتها لتشي بخوف إسرائيلي جدي من حصول تقارب أميركي إيراني يؤدي إلى اتفاق جديد يعمل الرئيس الفرنسي ماكرون على بلورته، ويشمل المجال النووي، وقد لا يتطرق، على ما يشاع، إلى أصل بلاء المنطقة، وهو التمدد الإيراني فيها. وما يعزز هذا الخوف هو ما يعرف عن ترمب من «زئبقية» مواقفه وتقلبها.

نستطيع القول إن الضربات الإسرائيلية توجه بالدرجة الأولى رسائل إلى أميركا والأوروبيين وروسيا، مفادها أن الهم الإسرائيلي يتعدى السلاح النووي الإيراني، ليشمل تطويق نفوذ إيران في جوارها، والحد من وجودها المتمادي في المنطقة.

وبالدرجة الثانية، توجه رسالة إلى إيران ووكلائها، وعلى رأسهم «حزب الله»، بأن قواعد اللعبة، خصوصاً تلك التي سادت بعد حرب «تموز 2006» قد تغيرت. وقد فهم السيد حسن نصر الله الرسالة عندما شدد على أن «الرد سيكون في لبنان»، في إشارة إلى تغييره هو أيضاً قواعد اللعبة أو القبول بما تفترضه. فمنذ 2006 كانت المناوشات بين الطرفين تجري في مزارع شبعا، المختلف على هويتها السيادية، فلا هي لبنانية ولا إسرائيلية، حيث أي اشتباك بين الطرفين لا يشكل خرقاً للقرار 1701. اليوم، يجد «حزب الله» نفسه في مأزق، لأنه يصعب عليه انتهاج نهج النظام السوري بالاحتفاظ لنفسه بحق الرد متى وأينما يشاء دون أن يرد، إذ لا يضر ذلك بصورته عند قاعدته الشعبية فقط، بل ينسف ما عمل جاهداً ومجاهداً على تسويقه منذ أكثر من عقد بقدرته على ردع إسرائيل.

إلى هذا، لا بد من التوقف عند بعض الوقائع:

* إن الانطباع العام بوجود توافق أميركي إسرائيلي على الأمور كافة ليس دقيقاً أو قاطعاً. فالإسرائيليون لا يثقون بشكل مطلق بأحد، كما أن التباين بين الطرفين حول السياسات من بعض القضايا هو حقيقة ملموسة.

* قد تكون الضربات الإسرائيلية ورقة انتخابية يلعب بها نتنياهو، ولا تدخل ضمن استراتيجية متكاملة. ستكشف نتائج الانتخابات في إسرائيل السياسة التي يمكن أن تنتهجها، وإذا ما كان نتنياهو في حال فوزه سيواصل هذا التوجه، أم أننا سنرى نتنياهو مختلفاً يعتمد سياسة أخرى. فهو يتعرض لانتقادات داخلية اعتبرت أن سياسته ألحقت ضرراً جسيماً بالحياة السياسية، وبالأمن القومي الإسرائيلي. أما وصول فريق «أزرق أبيض» قد تترتب عليه سياسة مختلفة أيضاً.

* المبادرة الفرنسية: ما هو مضمونها؟ هل ستأتي فارغة على غرار مسعى الرئيس الفرنسي السابق في مؤتمر المناخ والبيئة عندما حاول اللعب على شخصية ترمب لإقناعه وفشل؟ وحتى لو تم لقاء بين الرئيسين الأميركي والإيراني على هامش اجتماعات الجمعية العامة، فما هو جدول المباحثات؟ وهل تعرف أميركا حقاً ماذا تريد من إيران؟ وهل بمقدور هذه الأخيرة أن تلبي مطالب واشنطن؟

* يبدو أن الأطراف كافة في المنطقة لا تملك استراتيجية واضحة، فجميعهم يعتمدون تكتيكات بحسب ما يفرضه الواقع، حتى أن خريطة التحالفات أو العداءات مشوشة وتبقى عرضة للتغير. الثابتان الوحيدان فيها هما من جهة جدية العقوبات الأميركية على إيران، ومن جهة أخرى الوجود الإيراني المتمدد في الدول العربية.

حتى الآن تبقى الحلول لمشكلات المنطقة غير ناضجة، فلا الحروب العسكرية تمكنت من الحسم في العراق واليمن وغزة وسوريا ولبنان، ولا الضغوط الأميركية الاقتصادية على إيران قد أفضت إلى دفع إيران لتغيير سياستها الخارجية، ولا ثمة مبادرات دبلوماسية واضحة وجادة يعوّل عليها.

أما بالنسبة للبنان واللبنانيين، فقد نسف «حزب الله» بعد هذه العملية موضوع الاستراتيجية الدفاعية، وكرس أحادية قراره، والأخطر أنه حصل مجدداً على تفويض ومظلّة رسمية سارع الرئيس ميشال عون إلى منحه إياها، فأرسى مفهومه للاستراتيجية الدفاعية كالآتي: للحكومة الشكوى والعلاقات العامة وللحزب قرار السلم والحرب.