التاريخ: آب ١١, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
بدأت حرب الاستقلال الثانية في سوريا - سليم نصار
مع اقتراب نهاية الحرب السورية، باشر عدد من المقاولين والمهندسين وخبراء الاقتصاد اجتماعات دورية في لندن وباريس وبرلين بغرض تقدير حجم الخسائر في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وإدلب. وبسبب اهتمام الأمم المتحدة بنتائج دراسات الخبراء والمهندسين والمقاولين، حرص هؤلاء على تخفيض تكاليف إعادة الإعمار الى الحد الأدنى. ومع هذا كله، تجاوزت تقديراتهم المئتين وخمسين بليون دولار

ومثل هذا الرقم اعتمده الوفد الرسمي السوري الذي عقد سلسلة اجتماعات في موسكو مع وفد روسي مشكل من مختلف القطاعات المدنية والعسكرية. وبعد مراجعة برنامج الترميم وإعادة الإعمار من مختلف جوانبه، اتفق الوفدان على ضرورة الإسراع في ترميم أبنية المؤسسات الرسمية والمستشفيات والمدارس والمكاتب الحكومية. وفي نهاية الاجتماعات، سأل الوفد السوري عن مصادر تمويل هذه المشاريع الملحة. وفوجئ برد فعل الوفد الروسي الذي أعرب عن أسفه واعتذاره عن عدم المساعدة، ونصح بضرورة الاعتماد على مصادر الدول العربية الثرية. ولما أعرب الوفد السوري عن خيبة أمله من حل يصعب تحقيقه بسبب العلاقة الوثيقة التي تجمع النظام مع ايران، عندها اقترحت موسكو إطلاق "مشروع مارشال عربي - اوروبي" يمثل نواة المصادر الخارجية لجمع مئتين وخمسين بليون دولار. واعتبرت دمشق أن الاقتراح الروسي الثاني كان بمثابة حل تعجيزي يصعب تنفيذه. والسبب أن مشروع الجنرال الاميركي جورج مارشال (1880-1959) أنشئ بناء على رغبة دولة ثرية قادرة على إعانة الدول الاوروبية ومساعدتها على النهوض. وقد باشر الجنرال الذي عُيّن وزيراً للدفاع في تنفيذ مقترحاته سنة 1947. ثم نال عليها جائزة نوبل للسلام سنة 1953، أي بعدما تمت عملية إعادة إعمار اوروبا، بما فيها ألمانيا التي دمرتها الحرب.

تقرير "مؤسسة واشنطن للدراسات" وصف الدمار الذي أصاب المدن السورية بأنه لا يقل عن الخراب الذي أصاب المدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. والدليل على ذلك أن الميليشيات التي تناوبت على القتال في المدن السورية حرصت على تقليد سياسة ما عُرِف بـ "سياسة السجادة" التي مارسها الطيران الحربي الاميركي في فيتنام. أي تحويل كل ما هو قائم فوق الأرض الى"سجادة مسطحة". وإدعت واشنطن التي مولت مقاتلي المعارضة وسلحتهم بأن هذا الرد العنيف كان القوة الرادعة الوحيدة ضد استخدام السلاح الكيماوي من قبل جيش النظام.

بقي السؤال الأكثر أهمية الذي عرضه النظام السوري على أكثر من أربعة ملايين نسمة ونصف المليون لاجئ في لبنان والأردن وتركيا وشكّل هذا السؤال الدليل المطروح على طالبي العودة الى سورية. وهو عبارة عن وصف دقيق لصورة الوضع القائم الذي ينتظرهم في أرض الوطن. وهذه عينة من المعلومات التي وزعتها مصادر رسمية سورية على: الراغبين في العودة الى الوطن "أنت عائد الى مكان ليس فيه منازل، ولا مستشفيات ولا مدارس ولا شوارع ولا مخابز ولا سيارات ولا دراجات ولا فرص عمل. عقب المصارحة عن هذه الأحوال غير المألوفة، هل أنت مستعد للمغامرة بالعودة؟!".

يُستدَل من صورة الفراغ المرعب التي رسمها النظام لطالبي العودة أنه لا يرغب في عودتهم. والسبب أنهم يمثلون خطر التغيير الذي يسعى بشار الأسد الى تجنب تداعياته المجهولة. خصوصاً أن المرحلة الحالية لم تحقق للنظام استقرار السيادة الوطنية الكاملة على وطن مزقته الحرب الأهلية طوال سبع سنوات وعلى الرغم من الخلاف السياسي بين تركيا والولايات المتحدة، فقد عيّن البيت الأبيض جيمس جيفري مبعوثاً خاصاً للمساهمة في وضع ترتيبات المنطقة الآمنة في شمال سوريا. واقترح فور وصوله الى أنقرة تحديد المنطقة الآمنة بعمق يزيد على 15 كيلومتراً، شرط أن تشرف على إدارتها قوات اميركية تركية مشتركة.

وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو نفى أن تكون بلاده قد وافقت على المقترحات التي قدمها المبعوث الاميركي جيفري. وقال إن تركيا لم تحدد بعد عمق المنطقة الآمنة التي تفصل بلاده عن سوريا، ولم تبحث معه موضوع إبعاد المسلحين الأكراد عن المنطقة.

وهدد جاويش اوغلو في حال تأخر قرار التوصل الى اتفاق، فإن بلاده ستشن عملية عسكرية في شرق الفرات.

ويبدو أن الدور الجغرافي الذي استغلته تركيا منذ مئات السنين، قد تحول الى دور سياسي يمكن أن يوظفه رجب طيب اردوغان في مواقع عدة ولأهداف عدة. مثال ذلك، أنه يفاوض المبعوث الاميركي، من جهة... ثم يعلن استعداده لمساعدة اللجنة الدستورية السورية، من جهة أخرى.

جاء في البيان الختامي لمفاوضات "آستانا" التي استضافتها العاصمة الكازاخية نور سلطان أن روسيا وتركيا وايران ترفض إيجاد حقائق جديدة على الأرض. وشمل هذا الرفض إقامة مشاريع غير قانونية لإعلان حكم ذاتي بحجة محاربة الإرهاب. وهذا كله يلخص نتائج التناقضات التي تعرقل إعادة الإعمار واستعادة الاستقرار لنظام يسعى الى استرداد شرعيته، ولو على حساب ارتكابات وصلت ضحاياها الى أربعمئة ألف نسمة.

في زحمة البحث عن مكاسب ترضي صديقيّ روسيا، أي تركيا واسرائيل، تقدمت ايران الى الواجهة الاقتصادية لتحصل على امتياز في قطاع الكهرباء بقيمة 130 مليون يورو. وقد رسا الالتزام على شركة "مبنا". وهو يشمل دمشق واللاذقية وحلب وحمص ودير الزور. وكما نجحت طهران في الهيمنة على القرار السياسي داخل العراق عبر الإنخراط في عمليات إعادة إعمار البنى التحتية، هكذا تحاول التأثير على القرار السياسي لنظام بشار الأسد. كل ذلك عبر الحصول على أكبر نسبة من المشاريع الاقتصادية. وقد عينت سعيد أوحدي رئيساً للجنة تنمية العلاقات الايرانية – السورية المشتركة، وهو شخص كفؤ نجح في اختراق نفوذ روسيا وتركيا في حلب، المدينة الخاضعة عملياً لهاتين القوتين.

مراقب عمليات تطبيق حقوق الإنسان في سوريا رامي عبدالرحمن، قال في وصف الدور الايراني بأنه دور متجذر في سوريا منذ عهد الرئيس حافظ الأسد. بل منذ اتخذ الأسد الوالد قرار الوقوف الى جانب ايران في حربها ضد صدام حسين. وكان من نتائج ذلك الموقف عبور طهران الى لبنان بواسطة "حزب الله". تماماً كما كان من السهل عبور مقاتليها وأسلحتها الى لبنان بواسطة الطريق البرية الممتدة من ايران الى العراق، ومن سوريا الى لبنان.

تقول مصادر البنك الدولي إن فكرة "مشروع مارشال عربي - اوروبي" التي طرحتها موسكو لم تكن جدية ولا مجدية. والسبب أن سوريا بعد تحررها من "داعش" عادت تملك آبار النفط، وهي ذخيرة يمكن أن يوظفها النظام للإستدانة، أو لعقد صفقات مع الصين والهند. ويقدر إنتاج سوريا قبل الحرب بـ 385 ألف برميل يومياً

إضافة الى هذه المصادر، فإن بشار الأسد يحاول استدراج رجال أعمال سوريين للعودة الى البلاد والمشاركة في إعادة الإعمار والاستثمار. والمؤكد أن هذه الدعوة لم تلقَ الاستجابة المطلوبة لأسباب عدة، أهمها:

أولاً - ما هي الضمانات الرسمية ما دامت ايران وروسيا تتحكمان بمفاصل الدولة. ثانياً - هل يستأنف "حزب البعث" دوره كموجه معنوي لإدارات الدولة، أم أن الدستور الجديد سيلغي سيطرته السابقة؟ ثالثاً - أين هي السلطة الأمنية الضامنة والممثلة بأربعين ألف جندي فقط، لم يقبضوا معاشاتهم منذ سنة تقريباً. رابعاً - من أجل كسب ثقة المتعاونين، يجب إعادة المئة مليون دولار التي أمنها مستثمرون من سوريا ولبنان، في بداية عهد بشار الأسد.

خلاصة القول، فإن نشر قوات روسية في سوريا هو الذي رجّح كفة الحرب لصالح الرئيس بشار الأسد بعدما كان يسيطر في تلك الفترة على حوالى ربع مساحة البلاد فقط. واليوم، روسيا تحافظ على وجودها العسكري في سوريا من أجل تقوية نفوذ الأسد، والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط.

أما بالنسبة الى ايران، فإنها أخذت الكثير مقابل تدخلها المتواصل في سوريا. وقد حصلت تدريجياً على عدد من المواقع المهمة أعانتها على خلق تواصل جغرافي مع شواطئ البحر المتوسط. وقد سمّاه السيد حسن نصرالله في إحدى خطبه بـ "طريق التحرير" كونه يرسخ قدرات ايران في سوريا، ويسهل نقل الأسلحة والدعم اللوجستي لوكلائها.

وبما أن التسوية السياسية في أي بلد تحتاج الى إخراج القوات الأجنبية بطريقة تعزز السيادة الوطنية، لذلك يتطلع السوريون الى مستقبلهم بكثير من التشاؤم والخوف والتشكيك!