التاريخ: تموز ١١, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
أربعة عقود على رحيل محمد شرارة: شاهَد الديكتاتورية ولم يشهد تفتت العراق - بلقيس شرارة
مرت أربعة عقود على رحيل الكاتب والأديب والشاعر محمد شرارة. فمنذ ان رحل في 11/7/1979، مرّ العراق بمخاض من الحروب المتتالية، أولاها الحرب مع إيران في 1982 ثم حرب الكويت عام 1991، والحصار المدمر الذي كان نتيجة لتلك الحرب، ثم تلاها احتلال العراق من قبل الجيش الأميركي عام 2003، والذي قضى على عهد صدام حسين الذي دام ثلاثة عقود ونصف عقد من الظلم والتعسف، لكنه دمر أيضاً البنية الاجتماعية، وعندما تدمّر البنية الاجتماعية فإنها تحتاج إلى أجيال عدة لكي يستعيد المجتمع ما فقده.

لقد تفتّتت العلاقات الاجتماعية في العراق وحلَّت الانقسامات الطائفية والقبلية، فالوطن والمواطنة التي كان يؤمن بها محمد شرارة أصبحت من المصطلحات الغريبة علينا، فلن يتعرف على عراق اليوم، وعلى عاصمته بغداد التي أحبها ويحنّ إليها كلما اضطر إلى تركها مجبراً، فيقول في قصيدة "أماسي بغداد" التي نظمها عام 1938:

بغداد ما حملت لك الأيام من

قلبي سوى الزفرات والآهات

وعندما كان يسافر إلى لبنان يتذكر بغداد، فكتب:

"وأنا الوفيّ دائماً... وقد عرفتني بغداد في جميع المحن صائناً لها، عاكفاً على هواها، حافظاً لجميع مواقفها التاريخية الرائعة في قلبي وفي أوراقي وقصائدي التي أخطّها على الورق".

ويقول في قصيدته "الفجر فوق بغداد" التي نظمها عقب عودته من لبنان بعد ثورة عام 1958 في العراق، يحدوه التفاؤل في اطلالة عهد جديد:

الليل ذاب وغنت الأضواء

في الفجر، واحتضن الوجود بهاء

عمَّ السرور، فكل شيء ضاحك

في الأرض حتى الصخرة الصماء

عاش محمد شرارة بين وطنين يحنّ الى كليهما، وطنه الذي ولد فيه لبنان، ووطنه الذي احتضنه في سن الرابعة عشرة عندما بعثه والده لدراسة العلوم الدينية في النجف. كان له دور في تأسيس "الجمعية العاملية - النجفية" وهي مجموعة من اللبنانيين والعراقيين الذين كانوا طلاباً في مدارس النجف في منتصف العشرينات من القرن الماضي. وكوَّنت اجتماعاتهم بذرة الثورة على أساليب التدريس البالية، فوقف موقفاً حازماً وتحدى المدرسة الدينية ودخل في معركة ضد المحافظين من خلال الخطابة في المناسبات على المنابر والكتابة في الصحف التي كانت تصدر آنذاك في النجف. لكنه وجد في النهاية ان لا سبيل إلى اصلاح المدرسة الدينية، فقرر ان يتركها بعدما حصل على شهادة الاجتهاد، وهي دراسة دامت ستة عشر عاماً. ظل متألماً بعمق بعد مرور عامين على تركه النجف والتحاقه بسلك التعليم، فكان يهاجم كل من يحاول انتقاد المدرسة الدينية ويختلق الأكاذيب بحقه لتدمير حياته. فكتب مقالاً بعنوان: "الشعاع الروحي في أفق المدرسة الروحية، أين هو؟ وما مداه؟":

"وإذا وقفت تحاسبهم... لوّحوا لك بالنار المُحرقة، وغاروا على عقائدك ودينك ثم لا يرجعون عنها إلا وهي أشلاء مبعثرة تسيل دماؤها الطاهرة على أسنة من أقوال الأفك، وأحاديث الزور والبهتان، ثم لا تلبث أن تسمع عن نفسك أشياء لا تعرف انت منها شيئاً واحداً، فتعجب كيف توصلت هذه الفئة إلى شيء هو من خصائص قلبك وسرائر روحك وأنت لا تعلم منه شيئاً، وهذه حالة يعرفها من اتصل بهذه الفئة وعاشرها مدة من الزمن".

وانتقل إلى التدريس في المدارس الثانوية، وأصبح ماركسياً في بداية الاربعينات، فاتجه في كتاباته إلى التحليل المادي الدقيق للتاريخ، ولم يعد الوصف والمقارنة كافيين، بل أصبحت نظرته نظرة المتفحص في دراسة المواضيع التي تناولها. ولم يترك الكتابة عن تقوقع المدارس الدينية، وانغلاق أفق رجال الدين الذين كانوا يشرفون عليها، فكتب مقالاً يدافع به عن الشاعر الرصافي بعنوان "الرصافي والمتاجرون بالدين":

"إن غيظه من هذه الفئة وحنقه عليها لم يكن بدافع الحقد أو الغرض الشخصي، بل انها عون على التأخر وسند للرجعية، وحائط يستند إليه جميع المقامرين بحياة الشعوب، ومن هنا كانت حملاته عليها متتابعة... ويكفي ان يضع هؤلاء "عمامة" على رؤوسهم حتى يحق لهم أن يتكلموا في أخطر القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ويصدروا بشأنها الفتاوى، وهم لا يعرفون كلمة واحدة في "الاقتصاد" أو "الاجتماع".

في منتصف الاربعينات من القرن الماضي، أصبحت داره ملتقى الشعراء والادباء، من أمثال الشاعر بدر شاكر السياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وأكرم الوتري وكاظم السماوي، ومن الادباء حسن الأمين وحسين مروة الذي كانت تربطه به علاقة وثيقة منذ ان كان في النجف، وصادق الملائكة ومحمد حسن الصوري وكريم مروة ونزار الملائكة وغيرهم. دار في هذه اللقاءات الأسبوعية النقد والتحليل عن إيجاد أسس جديدة للشعر الحديث، فكانت اللبنة التي ولد فيها الشعر الحديث. وما كان يجمعهم في تلك اللقاءات حبهم للأدب والشعر بالرغم من التباين في آرائهم السياسية.

كتب محمد شرارة في مواضيع عديدة ومختلفة، وعالج قضايا كثيرة، فقد كان نصيراً ومدافعاً عن حقوق المرأة طوال حياته، وكتب مقالات تتعلق بعدد من النساء العربيات اللواتي كانت لهن مواقف متميزة ونادرة في التاريخ العربي، من أمثال عنان الناطفي وحفصة الركونية، كما كتب عدداً من المقالات دافع فيها عن حقوق المرأة منها: "هذه الشجرة" عام 1945:

"لقد ساهمت المرأة في الماضي والحاضر في ميادين الحياة كافة، ونجحت في جميع الاعمال، وهذا النجاح الذي صادفته في الاعمال يدلنا على ما وراءه من حيوية واستعداد، ولذلك لا نريد ان يفرض الرجل عليها آراء خاصة مستمدة من أنانيته وخيلائه وعنجهيته، بل نريد أن نفتح أمامها جميع أبواب الحياة، وأن تجرب استعدادها ومواهبها، فإن كان النجاح حليفها زاد رقي الأمة، واندفاعها إلى الأمام".

كما قام بحملة ضد أسلوب التعليم في المدارس بصورة عامة والأدب العربي بصورة خاصة، وهاجم بمقالاته المشرفين على التربية والتعليم في المدارس آنذاك، لذا نُقل من مدرسة إلى مدرسة ومن محافظة إلى أخرى.

كان ضد الإذعان وتحدى السلطة مرات عدة، وقد عرّضته هذه المواقف للحكم عليه في السجن مرات عديدة، واسقطت الجنسية العراقية عنه ما اضطره إلى ان يترك عائلته لأكثر من عقد ونصف عقد.

مرّ في حياته بسلسلة من الاحباطات، الإحباط لخسارة فلسطين عام 1948، التي نظم فيها سبع قصائد، إذ بدأت القضية الفلسطينية تنمو في مخيلته منذ ان كان طفلا عندما أعلن وعد "بلفور" ونظم اول قصيدة في فلسطين عام 1932، وظل موضوع فلسطين يؤرقه، فيقول في قصيدة عام 1939:

لا أرى فوقك إلا معولا

هادما متصلا في معول

أنظري ما حمل الماضي وما

يحمل الحاضر للمستقبل

وكانت خسارة ما تبقى من فلسطين عام 1967 طعنة في الصميم عقب الهزيمة المذلة التي لحقت بالجيوش العربية في ذلك العام. فنظم قصيدة بعنوان:

"بكائية الى شمس حزيران":

حاملين الوطن المصلوب في كفّ

وفي الأخرى التراب

آه لا تطرد

عن الجرح الذباب

فجراحي فم أيوب

وآلامي انتظار

ثم الإحباط الذي عاشه في وطنه لبنان عندما اندلعت الحرب الاهلية، واقتات أهلها بعضهم البعض في التدمير والقتل الذي حصد آلاف الضحايا، والإحباط الذي أصابه عندما هيمنت العائلة التكريتية على مفاصل وطنه الثاني العراق، وأصبح صدام حسين رئيسا للجمهورية. لكن مع ذلك ظل محمد شرارة يعتبر اليأس نوعاً من الهزيمة، فلن يساوره اليأس يوما رغم الإحباط وخيبة الأمل التي تعرض لها مرات عديدة في حياته فكتب في هذا الموضوع:

"في عقيدتي ان الوقوف أمام النفس البشرية، يجب ان يكون بمثابة الوقوف أمام الأماكن التي تنطوي على التراث الحضاري، فالذي يصاب باليأس بعد الضربات الأولى في تخوم الأرض، ولا يجد شيئاً من آثار الحضارة، غير جدير بلقب العالِم... وهكذا ينبغي ان يكون الشاعر أو الكاتب في وقفته أمام الوجود بصورة مطلقة، أو أمام الوجود الإنساني".

لكني اعتقد ان خيبة أمله ستكون كبيرة جداً، للتخلف الذي عمَّ معظم البلدان العربية بعد أربعة عقود من رحيله، حيث تراجعت هذه البلدان إلى العصور الوسطى التي مرّت بها أوروبا منذ أربعة قرون، من الحروب الدينية والطائفية التي مزقت نسيجها، والتشرذم من خلال الحروب الأهلية التي ما زالت تعاني منها بعض البلدان العربية. 

كاتبة عراقية مقيمة في لندن