التاريخ: تموز ١٠, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الحياة
التسوية الإقليمية في المرحلة السورية - عادل يازجي
أدّى الحراك الدولي المكثّف ضد إيران إلى انخراط واشنطن عملياً في التسوية السورية، تمهيداً للانقضاض على المشكلة الإيرانية في عقر فرعيها المتداخلين: السلاح النووي، وتصدير الثورة والارهاب، وتسوية المشكلتين سياسياً أو عسكرياً لا تقفز فوق سورية، بل قد تبدأ منها أو تخْتَتَمُ فيها. لكن أسلوب انخراط واشنطن يُشَكُّ بقدرته على إنجاز تسوية إقليمية شاملة، وبالتالي يصعب التفاؤل بتسوية سورية ما لم يتمّ فصلها كمرحلة من مراحل التسوية الإيرانية، التي يُكتفى بحصارها اقتصادياً في مسرح العمليات، وبتأهُبٍ عسكريٍ تحوّل إلى مجرّد استعراض للعضلات مُذ رفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الهجوم العسكري من التداول، واستبدله بالدفاع عن ناقلات النفط وحماية الملاحة الدولية، فألغى مفعول القدرة السابقة التأثير للقوة المستنفرة، وأبرم صفقات كبرى لنقل عتاده الحربي من مستودعاته إلى مستودعات أصدقائه في الخليج وشمال سورية، لكن مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون يحاول إصلاح خلل رئيسه والعودة للتلويح بالقوة والايهام باستخدامها!

لم يظهر من التسوية الإقليمية أيُّ ملمح، فإيران ما تزال تسرح وتمرح في معظم الدول العربية، إمّا برغبة نظام تلك الدول كقطر، أو بتسلل أيديولوجي أمنيٍ ومادّي، كما في سورية واليمن. لذلك، ارتفعت وتيرة الاهتمام بالقمة الأمنية الروسية - الأميركية الإسرائيلية التي عقدت في القدس الغربية أخيراً، باعتبارها قمّة صُنّاع القرار، ولن يمر انعقادها بلا نتائج سياسية أو جغرافية في المرحلة السورية على أقلّ تقدير.

من جهة أخرى لا يبدو أنّ «الفوضى الخلاّقة» ستحزم أمتعتها وترحل عن الوطن العربي، بل تحاول التوسع إقليمياً في اتجاه إيران وتركيا، وغرباً في اتجاه السودان والجزائر. ورغبتها بالتوسّع لا تعني التخّلي عمّا انجزته، ومحاولاتها التمدد لم تتجاوز جس النبض في ولاية الفقيه الإيرانية، فتوطين الفوضى وتمددها إقليمياً، تعزف واشنطن على أوتاره في مساوماتها الإيرانية – العربية.

إن براغماتية الحنكة السياسية لا تقيم وزناً للقيم الإنسانية، وبراغماتية ترامب أبرز مثال، لكن لا حِنكة فيها، وحنكة النظام الذي كان مستهدفاً، وتحوّل الاستهداف عنه إلى معارضيه، لا توازيها حنكة الطرف المعارض التي أوصلته إلى هذا الانتظار لتفاوضٍ غير مرغوب فيه من النظام وحليفيه روسيا وإيران حول «إمارة إدلب»، التي تتعلق المعارضة بقشة بقائها إمارة قاعدية أردوغانية قطرية، على رغم أنها معادية للمعارضات كلها، وللنظام، وللمجتمع الدولي راعي هيئة التفاوض ولجنة الدستور المتأهبة لجدل بيزنطي طويل الأمد.

يُفترضُ بالاجتماع الأمني الثلاثي الذي عقد في القدس الغربية، أن يكون وضع عربة تسوية مُلزِمة على سكة محطة أساسية. فهكذا اجتماع ليس مجرد هدية سياسية لنتنياهو من الثنائية القطبية، بل هو رفع للستارة عن مسرح اللعبة الإقليمية. وفي أيِّ تسوية أينما تُبرم، لن ينال الطرف المعارض أكثر من جائزة ترضية يقدمها المجتمع الدولي بمباركة النظام الذي لم يتبق ما يمنع من عودته إلى الساحة الدولية، إلاّ إذا اعتبرنا سياسة المجتمع الدولي تقوم على الأخلاق والقيم، وهذا ما تفتقده كُلّياً براغماتية الثنائية القطبية المتحكمة بالقرار الدولي.

تأزّم الوضع في إمارة إدلب، أتاح لهيئة التفاوض محاولة الاستثمار فيه، إنّما لصالح داعميها وليس لصالحها كهيئة اعتبارية، ومصير إدلب لن ينتصر فيه طرف على آخر، لا نظام دمشق، ولا نظام الإمارة التركية – القطرية.

هذا التشتت ينتظر مآل الحراك ضد إيران، وقد أبعد ترامب تأهبه عن حافّة الهاوية، بانتظار مفاجآته التي لم يفتح لها الفقيه الإيراني طريق العبور. وما أدرانا؟ فقد يلين ويفتح إذا آنس فيها انتصاراً لحلفه المقاوم، يمكن تأويله فقهياً، ولا يُستبعد أن يقوده تراجعه عن إبادة اسرائيل، إلى مفاجأة تبزّ مفاجآت ترامب كإباحة التفاوض مع «الشيطان الأكبر» الأميركي.

مشكلة التسوية السورية أنها لا تستطيع الافلات من قبضة الأزمات المعقدة المحيطة بها، وكأنّ حنكة النظام تُحبّذُ عدم الإفلات، وتجيّر كسر طوق عزلته لحنكته الأمنية، فهي تسرح وتمرح حيث يشاء القرار السياسي، وتناور وتحاور نظراءه حتى في الضفاف السياسية والأمنية المناوئة، والحوار الأمني قد نُفاجأ بنتائجه مع (المحتل) التركي لخطورة التصعيد الميداني على اتفاقيات خفض التصعيد المبرمة معه. ويؤدي التواصل الأمني غالباً، إلى حلِّ عُقَدِ السياسة بين الدول، فهو تواصل سياسي بامتياز.

منطقياً، يصعب الإقرار ببقاء إدلب إمارة قاعدية، ليس إرضاء للنظام، ولا مجرد اعتراض على أطماع أردوغان التوسعية العثمانية التي تؤخذ في الاعتبار بمنتهى الجدية عالمياً، إنما لأن في تطرّف إدلب اختراقاً علنياً للإرادة الدولية وصدقيتها بمحاربة الإرهاب، فكيف بإعطاء هذا الكيان المتطرّف مشروعية الاستمرار؟

إن دفاع المعارضة المفاوضة عن هوية إدلب، يعمق الفجوة بينها وبين النظام المفاوض، ما لم تتحوّل «القاعدة» إلى «عدالة وتنمية» على شاكلة «الإخونجية» التركية الحاكمة أو المصرية الفاشلة. وأغلب الظن أن النظام لن يغضّ طرْفَه، ولا طرف موسكو، حتى عن هكذا خيار لعدم الاطمئنان إلى صدقيته.

لا يُستبعد أن يكون اجتماع القمة الأمنية في القدس الغربية، شكّل منتجعاً منافساً لمنتجع سوتشي في حلّ الأزمات الإقليمية المعقدة. وطبعاً، ليس هنالك ما يمنع، فالحدود بين إسرائيل وجيرانها تمت إزالتها، باستثناء حدودها مع دولة فلسطين!

* كاتب سوري