التاريخ: أيار ٦, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
أوروبا: وجهتان واحتمالان؟ - حازم صاغية
يقول مأثور هندي أحمر: «حين تهبّ العاصفة، لا تنظر إلى أوراق الشجرة. انظر إلى جذعها». فالأوراق توحي بانهيار مؤكّد، أمّا الجذوع فتطمئننا: العاصفة إلى عبور ونحن الراسخون في الأرض.

اليوم ينظر أوروبيّون كثيرون إلى الجذوع، مُستنتجين أنّ هبوب الشعبويّة لن يقتلع الديمقراطيّة.

شرق القارّة الأوكراني وجنوبها الإسباني شهدا انتخابات عامّة في الأسبوعين الماضيين:

في أوكرانيا، كانت المناسبة استعراضاً ممتازاً للديمقراطيّة، بحيث قيل إنّ هذا بذاته سبب كافٍ لإغضاب فلاديمير بوتين. البعض ذهب أبعد ورأى أنّ التجربة الأوكرانيّة ستحرّض ديمقراطيي موسكو على التحرّك تشبّهاً بكييف. وإذا اهتزّ المعقل الروسي للشعبويّة اهتزّت، بالضرورة، معاقلها الأخرى.

ثمّ إنّ الفائز فولوديمر زلنسكي، وهو كوميدي تلفزيونيّ، يحمل برنامجاً ليبراليّاً فيما خصّ الاجتماع والثقافة والجنس والحرّيّات، فضلاً عن كونه أوروبي الهوى، لا يرى مستقبلاً لبلاده إلاّ في نطاق الاتّحاد القارّيّ.

في إسبانيا، تمكّن الحزب الاشتراكيّ، بقيادة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، من انتزاع الكتلة الأكبر من النوّاب في «الكورتس»، وإن لم يحظ بالعدد الكافي لتشكيل حكومة أكثريّة. فوق هذا، زاد الاشتراكيّون حصّتهم إلى 29 في المائة من الأصوات و123 مقعداً، بعدما اقتصرت في انتخابات 2016 على 22 في المائة و85 مقعداً. إذن، لا يزال في وسع الطرف المناهض للشعبويّة وللعنصريّة أن يقود الشعب والأمّة الإسبانيين. ليس هذا فحسب، فالإسبان انتخبوا 146 امرأة هنّ أكثر من 46 في المائة من مجموع النوّاب، وبزيادة 26 عن عددهنّ في البرلمان السابق.

هذا هو المزاج الأوروبي الجديد.

لكنّ تحليل أوروبا اليوم يشبه الروايات المتعدّدة السرود والأصوات. سردٌ آخر يقول العكس تماماً ولا يُعدَم الحجج:

فانتخابات أوكرانيا تنافسَ فيها بليونير فاسد هو الرئيس السابق بيترو بوروشنكو ونجمٌ مفاجئ ومغمور هو زلنسكي المدعوم من بليونير متّهم بالفساد هو إيهور كولومويسكي. ثانيهما، الذي اكتسح الدورة الثانية بنيله ثلاثة أرباع الأصوات، وافد من برنامجه التلفزيوني حيث لعب دور «خادم الشعب»، قبل أن ينشئ الموظّفون في شركة الإنتاج التي يملكها حزباً أسموه «خادم الشعب». استطراداً: الأمر لا يعدو كونه خلاصة امتزاج الشعبويّة والتسطيح السياسي بدور المال والإعلام. أمّا مستقبل الديمقراطيّة فسيكون محفوفاً بالمخاطر: فإذا كان شعار بوروشنكو «الجيش واللغة والإيمان»، فزلنسكي زايد عليه في الولاء للجيش والحماسة القوميّة للحرب مع الروس. وأكثر ما يُقلق أنّ إلحاق الروس للقرم في 2014 واحتلالهم أجزاء من شرقي أوكرانيا جعلا الانتخابات تركّز على مقوّمات الأمّة وعلى «الجوهريّ» فيها، فيما الديمقراطيّة المستقرّة تدور حول تسيير حياتها وإدارتها، إذ تكون الحدود والتركيبة السكّانيّة أموراً مبتوتة ومن تحصيل الحاصل.

في إسبانيا، لا يحول الفوز الاشتراكي دون الانتباه إلى حزب «فوكس» (أو «صوت»... أي صوت إسبانيا). فهذا أيضاً نشأ يوم أمس، عام 2013. كانشقاق عن «الحزب الشعبيّ»، وهو الحزب التقليدي لليمين الذي انخفض تمثيله من 137 مقعداً إلى 66. وبسبب «فوكس»، صار لليمين المتطرّف تمثيله البرلماني بـ24 مقعداً، وذلك للمرّة الأولى منذ موت فرانكو أواسط السبعينيّات. و«فوكس» هذا يناهض التعدّديّة الثقافيّة والنسويّة والهجرة والإسلام، ويتمسّك بـ«التقاليد» الذكوريّة القديمة فيما يتعلّق بالطلاق والزواج والإجهاض.

إنّه نذير اليوم للغد: ففي انتخابات إسبانيا أيضاً، تكبر حصّة العناصر «الجوهريّة» والتكوينيّة بسبب الهجرة من الجنوب، من وراء المتوسّط، كما بسبب إعلان الاستقلال الكاتالوني في 2017. والذي لم تعترف به مدريد واعتبرته خروجاً على القانون.

هذا هو المزاج الأوروبي الجديد.

بالطبع، لا يختصر المزاجَ المذكور ما يحصل في بلدين طرفيين، بلدين ليسا مضرب مَثَل في العراقة الديمقراطيّة أو في تقديم النموذج المؤثّر لسواهما. بيد أنّ بريطانيا، «أمّ البرلمانات»، تقع هي الأخرى بين تحليلين أقصيين: واحد يؤكّد أنّ «بريكست» قد فصلها عن قارّتها وقُضي الأمر، وآخر يتوقّف عند إخفاقات «بريكست» التي لا بدّ أن تفرض إعادة نظر، والانتخاباتُ المحلّيّة آخر الشواهد. التضارب نفسه يسم التحليلات الرائجة فيما خصّ «إصلاحات ماكرون» بعد تحدّي «السترات الصفراء» في فرنسا، أو الطريق الذي ستسلكه ألمانيا بعد تقاعد المستشارة ميركل. وإذ يلوّح البعض بانتخابات البرلمان الأوروبي التي ستُجرى بين 23 و26 مايو (أيار) الجاري، بوصفها الوضوح الذي يبدّد بعض الغموض، يتوقّف آخرون عند اثنين: الأزمة الاقتصاديّة، والضجيج التعبوي ضدّ اللجوء بعد انحسار اللجوء نفسه. ففي بقاء هذين العاملين أو ضمورهما، يقيم فصل الخطاب، ونعرف بالتالي مَن الذي سوف يغنّي، في آخر المطاف، «هذه ليلتي».