التاريخ: نيسان ٢٢, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الحياة
أسباب عسكرة المرحلة الانتقالية في ليبيا - بشير عبدالفتاح
خلافاً لحالات عربية مشابهة، أبت ليبيا ما بعد القذافي إلا السقوط في براثن التعثر في مسيرة التسوية السياسية لأزمتها، والاستسلام إلى أتون العنف والانجراف إلى مواجهات عسكرية دامية خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت تداعي النظام السابق في آذار (مارس) 2011، وهو الأمر الذي يمكن فهمه في ضوء حزمة من المتغيرات. أولها، أن إطاحة القذافي لم تخل من استخدام للقوة والعنف، سواء من خلال صدامات مسلحة استدرج القذافي الحراك الشعبي المناهض له إليها، أم عبر تدخل المجتمع الدولي بعدما ناشدت الجامعة العربية مجلس الأمن الدولي فرض حظر جوي على ليبيا، سرعان ما أقره المجلس بغية الحيلولة دون تنكيل القوات الموالية للقذافي بالثوار المدنيين عبر ضربات جوية. وفي الـ19 من الشهر ذاته، بدأت كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، هجوماً صاروخياً على أهداف تابعة للنظام الليبي تطبيقاً لقرار الأمم المتحدة. الأمر الذي رد عليه القذافي، بفتح مخازن الأسلحة لأتباعه توخياً لمقاومة "العدوان"، وإعلان منطقة شمال إفريقيا وحوض البحر المتوسط ساحة حرب، واستهداف أي سفينة أو طائرة حربية تجول في محيطها إذا تعرضت ليبيا لهجوم عسكري. تزامناً، بدأ حلف شمال الأطلسي ضرباته الجوية في ليبيا، بالاتفاق مع الأمم المتحدة، بغية حماية المدنيين من بطش نظام القذافي، الذي استهدفت مقاتلات الحلف موكبه أثناء هروبه من مدينة سرت، ما أتاح للثوار الإجهاز عليه في الصحراء.

غير أن انشغال الـحلف الأطلسي بإزاحة القذافي من دون وضع خريطة طريق للمرحلة الانتقالية التي بدأت عقب رحيله، كان كفيلاً بتهيئة الأجواء لإشعال الحروب الأهلية وتأجيج المواجهات المسلحة لاحقاً، خصوصاً مع تفاقم التدخلات الخارجية وتضارب مصالح اللاعبين الدوليين والإقليميين على الساحة الليبية إلى حدّ حوَّل قضيتها إلى صراع للنفوذ أو حرب بالوكالة.

وتمثَّل ثاني المتغيّرات، في افتقار التجربة الليبية قبل انتفاضة شباط (فبراير) 2011 إلى تجربة سياسة ثرية في ما يتعلق بالتداول السلمي للسلطة عبر المفاوضات والمساومات والتوافقات والحلول الوسط، إذ حالت مصادرة القذافي للسياسة دون تراكم إرث سياسي من الممارسة الديموقراطية بكل ما ينطوي عليه ذلك من نخب ومؤسسات وأحزاب أو إطار دستوري، بما كان يمكن أن يتيح التأسيس عليه والانطلاق منه نحو بناء نظام بديل خلال المرحلة الانتقالية. ومن ثم أضحى خيار العنف والصدام المسلح هو المعتمد بالنسبة إلى الأطراف الليبية المتصارعة بعد أفول حقبة القذافي، ما أدى إلى عسكرة المرحلة الانتقالية، خصوصاً مع تعاظم تأثير التدخلات الخارجية في ظل تعارض مصالح وحسابات القوى الدولية والأطراف الإقليمية.

أما ثالث المتغيرات، فجسَّدته "رخاوة" المجتمع الدولي في ما يخص حظر تزويد الفصائل والأطراف الليبية المتحاربة بالسلاح، استناداً إلى قرار مجلس الأمن الرقم 1970، الذي طالب جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة منع بيع أو توريد الأسلحة أوما يتعلق بها إلى ليبيا، بما فيها الأسلحة والذخيرة والمركبات والمعدات العسكرية وشبه العسكرية وقطع الغيار، كما حظر القرار أيضاً على تلك الدول شراء الأسلحة أوما يتعلق بها من ليبيا. وهو القرار الذي يقوم مجلس الأمن بتجديده سنوياً على الورق من دون ضمانات ناجزة لتطبيقه على الأرض في شكل شامل وصارم ومنصف.

بموازاة إخفاق المجتمع الدولي في تنفيذ الترتيبات الأمنية التي تضمَّنها "اتفاق الصخيرات" والمعنية بإفراغ العاصمة طرابلس وضواحيها من الميليشيات المسلحة، وهو الأمر الذي اتخذه المشير حفتر مبرراً استراتيجياً وقانونياً لحملته العسكرية الحالية لتطهير العاصمة الليبية من التنظيمات الإرهابية المدعومة عسكرياً ولوجيستياً من الخارج، لم تتورع القوى الدولية والإقليمية عن إبداء تشددها في ما يتصل بحظر السلاح عن الجيش الوطني، في وقت لا تتوانى الميليشيات الموالية لـ "حكومة الوفاق" عن التحايل على ذلك الحظر، مستفيدة من الدعم التسليحي السخي الذي توفره لها دول مثل إيطاليا وتركيا وقطر.

وبينما قرر مجلس الأمن الدولي بالإجماع تمديد هذا القرار في حزيران (يونيو) الماضي انطلاقاً مما تعانيه البلاد منذ سقوط نظام القذافي من انفلات أمني وانتشار مخيف للسلاح، بما يعرقل جهود استعادة الاستقرار في ليبيا ومحيطها الإقليمي والدولي، مع تعاظم مخاطر استخدامه من قبل الجماعات الإرهابية وتهريبه من جانب عصابات الجريمة المنظمة، تكثف قوى دولية كما الأطراف الليبية المتحاربة، سواء التي تتمركز في الشرق الليبي أم في العاصمة طرابلس، مساعيها لإقناع المجتمع الدولي بضرورة رفع حظر تصدير السلاح المفروض عليها، من أجل مساعدتها على مكافحة الإرهاب. وقبل أيام، طالب مجلس النواب الليبي، بضرورة رفع حظر التسليح عن الجيش الوطني الليبي. وأخيراً، دعا وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني إلى رفع الحظر عن توريد الأسلحة إلى ليبيا من أجل محاربة الهجرة غير الشرعية، معتبرا أن الأمر الوحيد الذي أدى إليه ذلك الحظر هو حرمان سلطات البلاد من المبادرة، لكنه لم يمنع الإرهابيين ومهربي المهاجرين والأسلحة من مباشرة أنشطتهم الخبيثة.

رابع المتغيّرات تجلى أخيراً في التداعيات السلبية لتفاقم التدخلات الخارجية في مجريات الأزمة الليبية منذ بدايتها عام 2011، فبينما لم تجد دول مثل مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا بدّا من دعم الجيش الوطني الليبي باعتباره الوسيلة المثلى للقضاء على التنظيمات الإرهابية التي استوطنت البلاد، على شاكلة "داعش" و"القاعدة"، توطئة لاتخاذها قاعدة لنفث سمومها في دول الجوار والمحيط الإقليمي والدولي قاطبة، فضلاً عن إنهاء الفوضى العارمة، وتوحيد البلاد تحت قيادة سلطة مركزية قوية، انبرت كل من تركيا وقطر وإيطاليا في دعم الميليشيات والفصائل المسلحة المرتبطة بحكومة الوفاق، حيث تتطلع إيطاليا، التي تعتمد على ليبيا في توفير 48 في المئة من احتياجاتها النفطية وأكثر من 40 في المئة من متطلباتها من الغاز، فيما تمتلك شركة "إيني" الإيطالية أهم امتيازات النفط والغاز في البلاد، التي تعد سوقاً مهمة لمختلف المنتجات الإيطالية، للحيلولة دون تحول الشواطئ الليبية، التي لا تبعد عن سواحلها الجنوبية سوى 300 كيلومتر، إلى منصة لتدفق الإرهابيين نحو أوروبا. ولعل هذا ما يفسر تحذير وزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي، فرنسا من مغبة التدخل في ليبيا، التي تعتبرها منطقة نفوذ إيطالي.

بعدما اعترفت بالمجلس الانتقالي في نيسان (أبريل) 2011، شاركت إيطاليا بمقاتلاتها وقواعدها الجوية في عمليات التحالف الدولي الذي قاده "الأطلسي" في ليبيا. وفي حزيران (يونيو) الماضي، أكد موقع "ماسغيرو" الإيطالي إبرام رئيس حكومة الوفاق فايز السراج ووزير الداخلية الإيطالي اتفاقاً لإقامة قواعد عسكرية إيطالية في غات ومصراته تتمركز فيها قوات خاصة وشرطة حدود ومنظومات صاروخية إيطالية، بذريعة مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية.

وفي حين تبارت الأطراف الليبية المتحاربة في مطالبة المجتمع الدولي بتجميد روافد الدعم العسكري الخارجي عن بعضها البعض، حرص مجلس النواب إبان جلسة عقدها قبل أيام، على المطالبة بوقف التدخلات الخارجية من قبل الأطراف التي لا تريد لليبيا أن تنعم بالأمن والاستقرار، خصوصاً تركيا وقطر، مناشداً الجميع عدم المساس بالسيادة الوطنية الليبية وضرورة احترام إرادة الشعب الليبي في تحديد مصيره وإنهاء أزمته الراهنة. وهي دعوة، يفلح المجتمع الدولي إن تجاوب معها تزامنا مع تخلي القوى الدولية والإقليمية عن تقديم مصالحها على حساب مصائر الأمم ومستقبل الشعوب، فيما ينجو الليبيون لو أحسنوا استثمار الفرصة وتسامت فصائلهم المتحاربة عن أطماعها الفئوية الآنية، توخياً لإعلاء مصلحة الوطن الليبي الجامع فوق أي مآرب فصائلية تحركها أيادي خارجية خبيثة ومغرضة.

* كاتب مصري.