التاريخ: نيسان ١٣, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
السودان راقصاً بين ماضِيَيْن.. فقط - جهاد الزين
للسودان تاريخ ديموقراطي متكرِّر ولكنه قصير منذ الاستقلال عن البريطانيين عام 1956. معظم الديموقراطيات السودانية، عدا الأولى، بدأت بانقلاب عسكري على الانقلاب العسكري وانتهت طبعا بارتداد العسكر ليقيموا حكما عسكريا..

لذلك السودان، لم يتميز فقط بأنه حالة تجاذب متواصلة بين العسكر والمدنيين، طالت لصالح العسكريين، هو أيضا حالة تجاذب دائمة بين الانتماء الحزبي الجهوي والطائفي (طائفتا الأنصار والختميين، ليس بالمعنى اللبناني للطائفية فكلتاهما من أهل السنّة)، وبين الانتماء الحزبي الأيديولوجي ممثلا بتيارين عريقين وفاعلين هما الشيوعيون والإخوان المسلمون بنسختهم السودانية المبكرة على يد حسن الترابي.

الشيوعيون السودانيون ذُبِحوا باكرا (1969) قبل أن تتاح لهم فرصة حكم يذبحون فيها الآخرين كما "توفّر" للشيوعيين العراقيين عام 1958 في مذبحتهم الشهيرة ضد البعثيين والتي سيردها البعثيون حتى الثمالة وتكراراً منذ ذلك الحين.

أما الإخوان المسلمون السودانيون، الذين يترنحون مرة جديدة مع سقوط البشير، فقد ساهموا، ولو كشريك لبعض العسكر ولمرتين في الذبح السياسي لكل الآخرين، الأهم من ذلك في الذبح الأيديولوجي للمجتمع السوداني حتى انفرد الإسلامي الإخواني الأصل عمر البشير بالحكم "وانتهى بالتخلّي عن جنوب السودان ذي المساحة التي تعادل مساحة فرنسا والبترول المتدفق بحرّية للشركات الصينية وبعض الآسيوية والذي لا تزال الشركات الأميركية والغربية تتردد في استثماره المباشر رغم مساعي حكومة جنوب السودان لاستقدامها بسبب مخاطر حرب أهلية يومية لم تتوقف منذ نشأت دولته المستقلة قبل سنوات قليلة". وها هو البابا فرنسيس يقبِّل أقدام الزعماء الجنوبيين المسيحيين بموقف أخلاقي رفيع لكي يوقف هؤلاء وحشيةَ الحرب الأهلية. هذا الكيان السوداني، وقبل انفصال الجنوب، بريطاني التأسيس بالنتيجة، كما لبنان فرنسيُّ التأسيس.

كان خديويّو مصر ثم مَلِكاها فؤاد ففاروق تحت الإشراف البريطاني يساهمون في حكمه إلى أن قبل الرئيس جمال عبدالناصر بفصله عن "التاج" المصري بعد نهاية الملكية.. ولكن سرعان ما منحه البريطانيون الاستقلال في ظل الموجة الناصرية نفسها المعادية للاستعمار التقليدي قبل أن تصبح لاحقا معادية للإمبريالية الجديدة الأميركية التي ستستدرجها لتوجيه ضربة قاضية لها عام 1967.

"الصفوة" هو التعبير الذي يستخدمه مثقفو ومتعلمو السودان بدل كلمة "النخبة" الشائعة عربيا.

نرجو إذن أن تنجح الصفوة الشبابية السودانية في الوصول إلى، ثم خوض، تجربة ديموقراطية أطول وأفضل من سابقاتها اليتيمات وأن تتمكن هذه الصفوة من منع الطبقة السياسية التقليدية أو ورثتها من قيادتها إلى فشل جديد.

لذلك السودان بعد سقوط البشير مفتوح على احتمالات للمستقبل من ماضيه المعاصر نفسه:

هل يكون بدلاء البشير مثل الجنرال سوار الذهب الذي قاد الانقلاب على النميري ثم غادر الحكم بتسليمه السلطة للأحزاب أم يكون مثل الفريق عبود والنميري والبشير الذين لم يغادروا سوى بانقلاب آخر مدعوم بحركات اعتراض سياسي مدنية؟

الآن طبعا لا نعرف.

لقد أصبح تاريخنا الحديث أكثر تعقيدا. فليس كل حكم عسكري مرفوضا بالمبدأ والمزاج المدنيين لأن هذا التاريخ دار دورته وظهر أن الجيش هو حامي وحدة الدولة والمجتمع كما حصل في مصر عندما تحوّل الإخوان المسلمون إلى قوة حرب أهلية تهدد الكيان والمجتمع المصريين. فوضع الجيش المصري وسط تأييد شعبي حدا لخطرهم.

لا يبدو السودان على الأرجح الآن من هذه الناحية بخطر، فلا خطر اجتياحٍ إرهابي خارجي كما في مصر، ولا خطر عسكرةٍ دولية وإقليمية لثورة شبابية كما حصل للثورة السورية التي استمرت بمصداقية لأشهر قليلة ثم قضت عليها عسكرة استباحة خارجية لحدود الدولة فأصبحت حربا أهلية دولية تحطمت النواة الثورية الداخلية تحتها.

لذلك إمكان التطور الداخلي نحو تحول ديموقراطي في العامين المقبلين واقعي وهو ليس افتراضيا لأنه يأتي، كما سبق القول، من داخل التاريخ السوداني الحديث. كذلك استمرار الديكتاتورية العسكرية ممكن.

طبعا بعد الذي حصل في المنطقة لا يجب استبعاد نظرية المؤامرة من حيث السعي لتفجير السودان بعدما جرى تقسيمه بمساهمة النظام السابق. وإن كان هذا ليس سيناريو مرجحا في الظروف الراهنة؟؟

المهم أن يبقى الاختبار داخليا ومحصنا بأسوار السودان حتى لا يقع في المحظورين السوري والليبي.

الجيوش الوطنية ظهرت حامية لتماسك الكيانات. المهم الآن كما في أي بلد، لاسيما الجزائر، تبلور المعادلة الديموقراطية نحو الحكم المدني والاستمرار في السعي لتكريس معادلة عودة اقتناع الجيش بالحكم الديموقراطي كما حصل سابقا، سودانياً، ولو لفترات قصيرة.

الخبر الذي يمكن إضافته من السودان أن سقوط الجنرال البشير يحمل معه علامة سقوط جديدة للإسلام السياسي الأصولي وللإخوان المسلمين كحركة أيديولوجية إلى منتصف الهاوية. لا ننسى أن السودان شهد إنشاء أول جمهورية عربية تحت حكم الإخوان المسلمين منذ انقلاب البشير، وأول جمهورية إسلامية في بلد مسلم بعد الجمهورية الإسلامية في إيران مع كل الفوارق في أحجام التحولَيْن..

كانت جامعة الخرطوم في الستينات جامعة نوعية التعليم قبل أن تأخذ مع غيرها من الجامعات الرسمية في البلدان العربية التي أنشأتها السلطات الوطنية بالانحدار والتراجع.

في الثقافة كان السودان رائدا مع الروائي الطيب صالح، ولاسيما في موسم الهجرة إلى الشمال إحدى أعظم الروايات العربية، في طرح الإشكال الحضاري للفرد في المجتمعات المستعمَرة وتجلياته وتناقضاته الهائلة بين الانشداد للغرب والحقد عليه إلى درجة العنف الصادم في العلاقات الشخصية.

الجيل السوداني الجديد هو أيضا في موسم هجرة جديد إلى الشمال، إن لم يكن جسديا كما تفعل كل مجتمعات المنطقة وإفريقيا فهو أيضا جيل الإنترنت وطموحات الطبقة الوسطى المدينية إلى الديموقراطية كما في بيروت والقاهرة وبغداد والجزائر والرباط.

الرقصة الديموقراطية الرصينة والجميلة كلاما وأداءً التي رقصتها الصحافية وطالبة الهندسة السودانية آلاء صلاح مع رموزها الشعرية والثقافية ليست تعبيرا عن دور خاص مفاجئ للمرأة العربية أو السودانية، فالمشاركة الفاعلة للنساء بدءاً من تونس إلى مصر إلى لبنان إلى غيرها صارت عملية مؤكدة وثابتة في السعي للتغيير. ما يضاف هنا من حيث الرموز، أن مشهد آلاء صلاح هو مشهد ليبرالي سياسيا وليس مشهدا أصوليا. نرجو أن يكون له معنى لوعد سوداني ديموقراطي شرط وحدة السودان أو ما أبقاه البشير من السودان..

الهاجس الكبير: هل يمكن لهذه الصفوة السودانية أن تعيد التوازن إلى زمن سوداني في زمن عربي مختل؟ السودان المحاصَر بثقافتيه السياسيتين العربية شمالا وغربا وشرقا والقلبْ إفريقية جنوباً هل يستطيع أن يصنع نتائج متزنة من داخل تاريخ مضطرب بل حزين؟

إضافتان نقلاً عن صفحتيَّ على الفايسبوك والتويتر:

* سيبدأ العديد من اللبنانيين الترحيب بسقوط نظام آخر خارج لبنان. داخل لبنان هم غير معنيين بإسقاط النظام. هكذا تستمر ثورة الأرز في الجزائر والسودان.

* حلوة كتير الاحتفالات الشعبية بالانقلاب العسكري! خلّونا نشوف. روقوا يا شباب؟