التاريخ: شباط ١٧, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الحياة
المشهد الليبي إلى تعقّد أم إلى انفراج؟ - محمد بدرالدين زايد
يبدو المشهد الليبي الآن في حال حراك واسعة النطاق، ويمكن للمراقب أن يرى الشيء وعكسه، فقد تقدمت قوات تابعة للجيش اللييي الذي يقوده المشير خليفة حفتر في المناطق الجنوبية، حيث الفوضى سائدة، ولكن المعلومات متضاربة حول مدى تقدم هذه القوات، ومن أجل أن نفهم ردود الفعل الداخلية في ليبيا تجاه هذا التطور فلابد من معرفة كيف كان الوضع في الجنوب، حيث من المؤكد أن هناك قوات تشادية وسودانية معارضة لنظم الحكم في بلادها قد لاذت بالأراضي الليبية للاستفادة من غياب الدولة، فضلاً عن جماعات متشددة ليبية وغيرها، وأقوال عن وجود عسكري فرنسي بشكل ما ربما لمطاردة الجماعات المتشددة من دول وسط إفريقيا مستعمرات فرنسا السابقة، الوضع إذاً كان يقتضي تدخلاً من جيش البلاد لمواجهة هذه الفوضى المؤسفة، إلا أنه وفي تعبير واضح عن توجهات حكومة السراج الحقيقية، فقد عبرت عن ثورة شديدة إلى حد أن مندوب ليبيا أو مندوب هذه الحكومة في الأمم المتحدة دان هذا التحرك، مطالباً بتدخل دولي لوقفه، وجدد هذا الموقف تصريحات القيادات الإخوانية ومنها رئيس المجلس الرئاسي خالد المشري، التي تضمنت هجوماً شديداً طال مصر أيضاً. وكان السراج قد عين الفريق علي كنه قائداً عسكرياً للمنطقة الجنوبية في إطار تصعيده للمواجهة ضد حفتر، رغم أنه لا توجد شواهد على أن الرجل يستطيع ممارسة هذه المهمة، بل إن عمدة سبها أهم مدن الجنوب الليبي دعاه للإنضمام للجيش، الذي أصدر بدوره تصريحات على لسان رئيس الأركان الناضوري تعرب عن ثقتها من عدم أهمية قرار السراج.

يلاحظ أن السراج عاد وأصدر تصريحات غامضة حول الوضع في الجنوب لمحاولة تخفيف الانتقادات ضده، إلا أنه في الحقيقة لا شك أن انفعال حكومته الشديد ضد تحرك الجيش الليبي جنوباً يدعو للحزن الشديد، فبدلاً من اعتبارها خطوة ضرورية لاستعادة الدولة الليبية، فقد نظرت إليها فقط كخطوة مثيرة للقلق، ربما خشية أن يليها في المستقبل التحرك غرباً، كما أن أي تهديد فيما يبدو لوجود الميليشيات وجماعات العنف في البلاد يثير قلق من يسيطرون على العاصمة حالياً. وعموماً أثار موقف حكومة السراج مجلس النواب الليبي، ودان عدد من قياداته تصرفات البعثة في الأمم المتحدة واعتبرتها خيانة، مثلما عبر عدد من القيادات المتشددة والإخوانية عن استيائهم من خطوة الجيش. وكل ذلك رغم أن هذا التطور المهم يحيط به قدر من تضارب المعلومات فيما يتعلق بالوضع العسكري، وإن كان الأرجح أن هناك تقدماً ملحوظاً للجيش واستقبالاً شعبياً أيضاً مرحب بتراجع الميليشيات الأجنبية وتللك المتشددة أيضاً.

من ناحية أخرى يجرى حالياً محاولة احتواء الملاسنات والتجاذبات بين إيطاليا وفرنسا، بعد أن علا صوت إيطاليا بشكل غير مسبوق، خاصة وزير داخليتها الذي أصدر عدداً من التصريحات النارية ضد فرنسا، ردت عليها فرنسا باستدعاء السفير الإيطالي وسحب سفيرها لقرابة الأسبوع إلى أن أعلن وزير خارجية فرنسا قرب عودته لروما كما أنه وبقدر من التعقل تضمنت محاولة الاحتواء دعوة الوزير الإيطالي إلى باريس لمناقشة المسألة، وطبعاً الخلاف بين البلدين يشمل ملفات عديدة كمسألة الهجرة وليس فقط ليبيا، فمسألة مقابلة وزير الداخلية الإيطالي عدداً من قيادات السترات الصفراء ليس ألا من قبيل المكايدات الصغيرة، أما بالنسبة لليبيا فإن اللافت للانتباه أن كلا البلدين يسارع لإرسال وفود مخابراتية لعقد لقاءات في ليبيا، وعموماً يتصرفان بشكل مخالف لعلاقات البلدين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونشأة السوق الأوروبية المشتركة فالاتحاد الأوروبي، وكأننا نعيش عصر التنافس الاستعماري الأوروبي الذي سبب الحربين العالميتين السابقتين وإن كان بسذاجة هذه المرة تدعو للدهشة، في ضوء تجاهلهما للتاريخ الليبي الحديث وأوضاع العالم الراهنة. من هنا نسمع تعليقات في ليبيا مثل فرنسا واللعب على الحبلين بين طرفي الصراع الليبي، أو ما نراه واضحاً من تذبذب واضح للموقف الإيطالي تجاه الأوضاع الليبية.

على أن الاتحاد الإفريقي، الذي تراجع دوره إلى حد كبير، يحاول الآن العودة لهذا الملف. مهم أن نفهم لماذا التراجع، لنقدر مدى إمكانية العودة، فالتراجع كان لما اعتبرته أطراف ليبية عديدة إنحيازاً من الاتحاد الإفريقي للقذافي، فقد نشطت لجنة الحكماء الإفريقية عقب الاضطرابات ضد القذافي، وزارت ليبيا مرات عدة، وأعطت انطباعات داخل ليبيا وخارجها بانحيازها للقذافي، كما حدث خلط شديد خلال المواجهات المسلحة من دور القبائل السمراء الجنوبية المنتمية لصفوف الرئيس الليبي السابق، وأطلقت المعارضة اتهامات لم تثبت صحتها من أن هذه القوات من دول إفريقية أخرى مساندة للزعيم الليبي المعروف علاقاته الإفريقية ونفوذه الذي بناه بسخاء لدى نظم وشعوب إفريقية عديدة، ومن ثم اختفى الدور الإفريقي في الفترة التالية لسقوط نظام القذافي ومصرعه، واحتاج الأمر لفترة حتى تم تعيين مبعوث إفريقي لدعم عملية السلام والمصالحة في ليبيا، وحتى هذا لم يكن محل ترحيب فصائل وشخصيات ليبية عديدة، ومن ثم كان نشاطه الرئيسي مجرد حضور فعاليات أممية أو لدول جوار ليبيا (والتي أسست في البداية من مصر وتونس والجزائر والسودان وتشاد والنيجر أي الجوار المباشر لليبيا)، على أن القمة الإفريقية الأخيرة، وربما بمناسبة تولي مصر رئاستها قد اتخذت قراراً مهماً قد يعيد القارة لليبيا وهو عقد مؤتمر مصالحة وطنية لكل الأطراف الليبية في مقر الاتحاد العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في تموز (يوليو) المقبل تحضيراً للانتخابات الليبية في تشرين الأول (أكتوبر) التالي، أمر قد تكتنفه صعوبات شديدة، قد تزيدها عرقلة غربية وليس فقط من بعض التيارات الليبية. عموماً إمكانية نجاح هذه الخطوة لم تتضح بعد.

وفي استمرارية لسلبية الأمم المتحدة لم يعلن بعد عن تحقيقات جادة في مسألة نقل تركيا لأسلحة وذخائر إلى ليبيا، وربما لولا تصريحات مصرية بهذا الصدد، وأخرى من أطراف ليبية وإن كانت متقطعة لنسى الجميع الأمر، كما لم تعلن طبعاً نتيجة التحقيقات المشتركة بين تركيا وحكومة السراج حول المسألة، وهي في ذاتها أمر من قبيل الهزل أن تكون أنقرة طرفاً في هذه التحقيقات، والعالم كله يعرف مسؤوليتها بهذا الصدد.

الخلاصة أن هناك حراكاً في المشهد الليبي، وليس كله إيجابياً، وعندي أن أهم ما فيه هو التكشف المتزايد لارتباط حكومة السراج بالميليشيات المتطرفة والذي يكشفه أيضاً تخبط قرارتها العديدة الخاصة بتعيينات عسكرية وأنها تبتعد أكثر فأكثر عن أن تكون حكومة وفاق وطني، وربما أن تنتهى الضبابية والرمادية في هذا المشهد الليبي أفضل كثيراً للشعب الليبي لتحديد خياراته بشكل أفضل.