التاريخ: كانون ثاني ٩, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
نظرة إيران إلى سوريا في مرحلة "ما بعد أميركا"
حميد رضا عزيزي
أثار القرار المفاجئ الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 19 كانون الأول، بسحب القوات الأميركية من سوريا، ردود فعل مختلفة داخل الولايات المتحدة وخارجها على السواء. وقد أعربت الدولتان الحليفتان للولايات المتحدة، فرنسا وبريطانيا، عن امتعاضهما من الخطوة، مشدّدتَين على أن المهمة الغربية في سوريا لم تبلغ خواتيمها بعد. أما روسيا وتركيا، وهما ركيزتان من ركائز إطار أستانة، فقد رحّبتا بالقرار إذ رأتا فيه خطوة إيجابية نحو إيجاد حل للأزمة السورية. في الوقت نفسه، فسّر المشترعون الأميركيون في جهتَي الطيف السياسي في الولايات المتحدة، الخطوة بأنها خطأٌ من شأنه تمكين إيران وروسيا في سوريا.

في غضون ذلك، كانت الجمهورية الإسلامية تراقب، بصمتٍ إلى حد كبير، كل هذه السجالات من دون أن تتبنّى موقفاً رسمياً من التطورات. وصدر رد الفعل الرسمي الأول عن إيران بعد ثلاثة أيام من القرار الأميركي، وتحديداً في 22 كانون الأول، عندما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي: "منذ البداية، كان دخول قوات أميركية ووجودها في المنطقة خطأً... وسبباً أساسياً لعدم الاستقرار وغياب الأمن". وقد أحجم عن الاستفاضة في الحديث عن نظرة طهران إلى مضاعفات الخطوة الأميركية على المعادلتَين السياسية والعسكرية في سوريا. واكتفى بتكرار الإشارة إلى وجهة النظر العامة التي تتبنّاها الجمهورية الإسلامية من الوجود الأميركي في الشرق الأوسط.

عند تفسير المقاربة الحذرة التي تعتمدها طهران، يمكن القول بأن إيران ليست واثقة بعد مما إذا كانت الخطوة ستقود إلى أي تغييرات في الاستراتيجية الأميركية التي تقوم على كبح الأنشطة الإيرانية في المنطقة، بما في ذلك سوريا. بعد يومٍ واحد من القرار الذي اتخذه ترامب، قال رودني هانتر، المنسّق السياسي للبعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة، لمجلس الأمن الدولي إن واشنطن "سوف تستخدم مختلف أدوات نفوذها الوطني للضغط من أجل انسحاب القوات المدعومة من إيران" من سوريا. بالنسبة إلى المسؤولين الإيرانيين، هذا التصريح هو مجرد إعادة صياغة لما قاله المبعوث الخاص الأميركي إلى سوريا، جيمس جيفري، في 15 تشرين الثاني، بأن طرد إيران من سوريا ليس هدفاً عسكرياً تسعى إليه الولايات المتحدة، بل يجب أن يكون نتيجة من نتائج العملية السياسية.

في الأسابيع الماضية، انهمكت إيران، المدرِكة لهذا العنصر الدائم في السياسة الأميركية في الملف السوري، بالعمل على وضع خططها الخاصة للحفاظ على مصالحها في سوريا. فقد شهدنا، على المستوى السياسي، على جهود إيرانية متزايدة ضمن إطار أستانة للتعجيل في إنشاء لجنة دستورية سورية، وفق ما جرى الاتفاق عليه في المؤتمر الوطني السوري في مدينة سوتشي الروسية في كانون الثاني 2018. في 17 كانون الأول، قام كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني، حسين جابري أنصاري، بزيارة إلى دمشق لإجراء مباحثات مع كبار المسؤولين السوريين، ومنهم الرئيس بشار الأسد. خلال الاجتماع، أشاد الأسد بالجهود التي تبذلها إيران لإنشاء اللجنة الدستورية. إشارة إلى أن زيارة جابري جاءت قبل يوم واحد فقط من الاجتماع الذي عُقِد بين وزراء خارجية إيران وروسيا وتركيا في جنيف، والذي توصّلوا خلاله، وفق ما أُفيد، إلى اتفاق حول تركيبة اللجنة الدستورية، كذلك حول عقد الاجتماع الأول للجنة في مطلع عام 2019.

كان اجتماع جنيف ذات أهمية بالغة. فقبل أسبوعَين من انعقاده، في الخامس من كانون الأول، وجّه جيفري انتقادات إلى طهران وموسكو وأنقرة لفشلها في إنشاء اللجنة الدستورية، مطالباً بوقف العمل بصيغة أستانة. وقد صرّح جيفري: "ترى الولايات المتحدة أنه يجب وقف عملية أستانة"، ملمّحاً إلى أنه ينبغي أن تحل محادثات جنيف بقيادة الأمم المتحدة مكان مبادرة أستانة. من هذا المنطلق، يمكن القول بأن الهدف من اجتماع جابري مع الأسد كان إقناعه بإبداء مزيد من التعاون في إنشاء اللجنة الدستورية – أو حتى الموافقة على تقديم بعض التنازلات في هذا الصدد – بغية حرمان واشنطن من أي ذريعة لتبرير محاولاتها الآيلة إلى إضعاف صيغة أستانة، وبالتالي إضعاف الدور الإيراني في العملية السياسية السورية.

في الوقت نفسه، تلتزم إيران، حتى الآن، الصمت في موضوع التهديدات التركية المتواصلة بشنّ عملية عسكرية ضد المجموعات الكردية المسلّحة في شرق سوريا. تنظر تركيا إلى القوى الكردية، التي تشكّل الجزء الأساسي في "قوات سوريا الديموقراطية" التي تُعَدّ الحليف الرئيس لواشنطن في محاربة "الدولة الإسلامية" في سوريا، بأنها قوى إرهابية. في حين أن الجمهورية الإسلامية لا تتشارك هذه النظرة رسمياً مع أنقرة، يساورها القلق بأن العلاقات الوثيقة بين الأكراد السوريين وواشنطن، فضلاً عن وجود نزعات انفصالية في أوساطهم، قد تتحوّل خطراً يُهدّد تمامية الأراضي السورية. لقد أبدت طهران تأييدها للتوصل إلى تسوية بين الأسد والأكراد، تستعيد دمشق بموجبها السيطرة على المناطق الخاضعة راهناً لسيطرة الأكراد شرق الفرات.

الآن يبدو أنه بعد فشل الأكراد ودمشق في التوصل إلى تسوية، تعتقد طهران أنه من شأن ممارسة أنقرة ضغوطاً حقيقية على الأكراد أن تعود بثمارها على الأرجح. بعبارة أخرى، إما سيوافق الأكراد وأخيراً – تحت تأثير التهديدات التركية بالتدخل العسكري – على التوصل إلى تسوية مع الأسد، وإما ستمضي تركيا قدماً بالخيار العسكري الذي من شأنه أن يحرم الولايات المتحدة نهائياً من ورقتها الأقوى في سوريا. في المقابل، أظهرت تركيا في الآونة الأخيرة انفتاحاً أكبر حيال القبول بالأسد في السلطة في سوريا. بناءً عليه، تُقيِّم طهران الوضع الراهن في شرق الفرات بأنه يعود بالفائدة عليها في مختلف الأحوال. لكن بما أنه من شأن الانسحاب الأميركي أن يحرم الأكراد من الجهة الأساسية التي تؤمّن لهم الحماية في مواجهة اجتياح تركي وشيك، يبدو السيناريو الأول أكثر ترجيحاً في الوقت الراهن.

تعمل إيران وروسيا وسوريا والعراق على تطوير التعاون بينها في إطار مركز القيادة المشترك، وفقاً للتقارير. وهذا يعني أن إيران تعمل أيضاً على الأرض حرصاً على الحفاظ على مصالحها في الإبقاء على رابط بري بين العراق وسوريا في وجه أي تطور غير مؤاتٍ، مثل ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" من جديد في شرق سوريا جراء الانسحاب الأميركي. لذلك يمكن القول بأن إيران لا ترى في قرار ترامب انتصاراً كاملاً، لا بل أكثر من ذلك، تحاول توسيع هامش المناورة المتاح أمامها في سوريا كي لا تُصيبها التداعيات السلبية للانسحاب الأميركي.

أستاذ مساعد في مادة الدراسات الإقليمية في "جامعة الشهيد بهشتي"
"المونيتور"

ترجمة نسرين ناضر