التاريخ: تشرين الثاني ١٧, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
حول كتابات كريم مروة المتواترة - فيصل دراج
يحيل كتاب كريم مروة الجديد: "فصول من حواراتي وكتاباتي"(1) على كتب سابقة استدعت الماضي وخاطبت المستقبل. استأنس المؤلف بتجربة حياتية مديدة، عمرها تسعون عاماً تقريباً، داخلتها تجربة سياسية مباشرة استمرت نصف قرن من الزمن، احتل فيه الحزب الشيوعي اللبناني مكاناً واسعاً. أمنت له التجربة الأولى "علاقات إنسانية" واسعة متعددة، شملت لبنان والعالم العربي وخارجهما، وأتاحت له التجربة الثانية زيارة أكثر من ستين بلداً، واللقاء بقادة سياسيين عالميين، ومعرفة دقيقة بأحوال ما كان يعرف مرة: "المعسكر الاشتراكي".

لا غرابة أن تتكئ كتابات الاستاذ مروة على تجاربه وأن تكون التجارب المتعددة مصدراً للخبرة والمعرفة، وأن تصبح مرجعاً "للنظرية" وقارئاً نقدياً لها، إن لم تكن التجربة المتراكمة مدخلاً إلى مقاربات نظرية جديدة، بعيداً عن زمن شيوعي "سعيد"، خالطه اليقين ورأى الماركسية قوة علمية لا تقهر. وإذا كان بعض من الشيوعيين دار طويلاً بين كلمتين: الاتحاد السوفياتي والاشتراكية العلمية فقد كان مروة بسبب نشأته وتربيته مثقفاً متعدد الآفاق: فهو الماركسي القومي المؤمن مع غيره بأمة عربية صاعدة، والعروبي المهجوس بالمسألة الفلسطينية، والماركسي العروبي المشغول بقضايا الأقلية والاكثرية، والأقرب دائماً إلى الوجود الإنساني الحر، الذي ترسبّ في ذاكرته من قراءة جبران خليل جبران وطه حسين وسلامة موسى،...

تنطوي كتابات كريم مروة المتواترة على رغبة صريحة، أو مضمرة، بزمن تاريخي مستمر، في حاضره شيء من ماضيه، وفي ماضيه شيء من ماضٍ سبقه، وفي مستقبله ما يصالح بين أزمنة متعددة، شكلت مروة تلميذاً ومثقفاً ومتحزّباً وقائداً حزبياً. غير أن رغبة مروة المشروعة لم يتح لها التحقق، لا بسبب تاريخ يتقدم دائماً إلى حيث يشاء، بل بفضل عثار عربي تقوده أنظمته بلا عقلانية قاتلة، تمنع التراكم التاريخي، وتحاصر الكيف الإيجابي محتفية "بالكم"، الذي يرضي، عادة، عقولاً بدائية.

ولعل المسافة المأساوية بين ماض قريب عرف نكبة فلسطين وحاضر عربي أنتج نكبة، بصيغة الجمع، هي في أساس رغبة مروة بزمن تاريخي مستمر، ذلك أن زمن النكبة الأولى عرف الأحزاب السياسية الفاعلة ومثقفين مطالبين بالتغيير ومجلات وصحف ومجتمع عربي لا يعيش على "ثقافة الأدعية" وامرأة تريد أن تذهب إلى الجامعة بعيداً عن حاضر أتقنت الأنظمة فيه قمع شعوبها،... وسواء كان الحاضر العربي متطرفاً في بؤسه، أم كان مروة متطرفاً في نقده، فإن الأخير يريد حاضراً يستأنف "عصر النهضة" وأفضل ما قدّمه الكفاح التحرّري العربي في القرن العشرين.

تستلزم إعادة الماضي إلى حياة الحاضر، وهي رغبة يداعبها الحلم،"ترهينه"، ذلك أن ترهين الماضي "التحررّي" يجعله جزءاً من الحاضر، بلغة قال بها ذات مرة الماركسي الإيطالي غرامشي، بقدر ما إن إصلاح الحاضر المهزوم، أو "إعادة تثقيفه"، بلغة مروة، يؤهله لقبول الماضي المذكور والسير معه إلى مستقبل "مشتهى". ومع أن الترهين، كما إصلاح الحاضر، يبدو فعلاً منطقياً، فإن الهوة الواسعة بين ما كان وما صار تقيم مسافة شائكة بين المنطقي والتاريخي، ما يدفع بكريم مروة إلى الحوار والتكرار والتبسيط، قابلاً "برهان ما"، مؤمناً بقوة الثقافة، وبتحالف عضوي بين الثقافة والسياسة.

ينوس مسار مروة بين إيمانية بتحرر مستقبلي، وبنسبية الأدوات المفضية إليه، أو يدور بين إيمان بالحياة المتغيّرة وبجهد كتابي كفاحي، منتهياً إلى رومانسية مريحة، تذيب الأزمنة المختلفة في زمن الإنسان المتفائل. ولعل هذا التفاؤل، الذي لا يحجبه صاحبه أبداً، هو الذي يعيّن "الحوار" منهجاً في الكتابة والحياة، يعاين الأفكار المتباينة، ويؤمن بالدفاع عن "حياة سويّة" طريقاً لا بديل عنه.

يستتبع كتاب مروة الجديد: "فصول من حواراتي وكتاباتي" كُتباً سبقته، عالجت ما يعالجه، وحاورت ما يحاوره، وخلُصت أيضاً إلى ما خلص إليه، كما لو كان الكاتب يفكر ويتأمل ويحلل، ويشهد على ذاته وعلى "الأزمنة" التي عاشها. وإذا كان مَثَلٌ إفريقي يقول: "ما رحل عجوز إلا ورحلت معه مكتبة"، فقد آثر كريم أن يترك "مكتبة" قبل الرحيل، وضع فيها خمسة وثلاثين كتاباً، وأكثر.

كان قد بدأ مساره المتناتج بكتاب "حوارات" عام 1990، تبادل فيه الكلام مع "أربعين" مثقفاً عربياً، أعقبه بكتب أخرى جمعت بين الحوار والنقاش مثل: "حوار الإيديولوجيات بين أفكار ماركسية وافكار دينية" - 1997 - سبقه "افكار للنقاش حول الجذور والتجربة والآفاق" - 1985 - أعقبه "قراءتي المعاصرة لإفكار ماركس وسبعة عشر مثقفاً عربياً - 2006. دار الحوار حول الأفكار، على اعتبار أن الأفكار "قوة مادية"، وحول متطلبات الحاضر الواجب تغييره، ما يوحي بأن المستقبل يصنع، أو قابل للصناعة، شريطة العثور على وسائل موائمة، لا يزال كريم يبحث عنها، منذ حوالي أربعين عاماً، حين كتب "أزمة الماركسية" - 1983.

في الأربعين عاماً المنصرمة تابعت "حركة التحرير العربية" احتضارها الطويل - كان كريم قد كتب في مجلة الطريق عن أزمة حركة التحرر في نهاية سبعينات القرن الماضي - وسقطت الماركسية كقوة جماهيرية واختصرت في "بُقيا" من الماضي، تحرسها تنظيمات منعزلة عن الحياة، ودفع العالم العربي الكفاح الفلسطيني إلى "ممر الغزلان"، وأسلم المسألة الفلسطينية إلى الغطرسة الإسرائيلية. انتهى ما التزم به كريم طيلة حياته إلى مآل يائس يصعب إصلاحه. عالج العجوز اللبناني المآل اليائس بإيمانية تنكر اليأس، وتعتبر اليأس والنهوض وجوهاً من وجوه الحياة، مواسياً ذاته بجملة ماركس: "كل ما في الحياة ليس غريباً عني".

استولد الواقع العربي، الواجب إصلاحه، أسئلة متنوعة، واستولدت رغبة كريم الإصلاحية أسئلة موازية. تراءت، في الحالين، شهوة إصلاح العالم، التي هي إرث رومانسي قديم، يؤمن بالرغبة وينقّب، بإصرار، عن وسائل تحققها، لا فرق بين الإمكانية المجردة والإمكانية الفعلية. تطرح المسافة بين الإمكانيتين قضاياها المسكونة بتناقضات كثيرة: هل يستطيع مثقف أخلاقي عجوز، مشبع بفضيلة المسؤولية السياسية، استنهاض شباب عربي دحره اليأس؟ وما شكل الرابطة القومية بين شعوب عربية، لم تكن موحدة في زمن السيطرة العثمانية، كما يقول كريم، وأقامت بينها "دولة الاستقلال الوطني" حواجز جديدة؟ وكيف نصل إلى إسلام واضح التعريف، كما يطالب كريم، إن كان المركز الديني الموحّد لا وجود له، وإذا كان الإسلام، في استعمالاته السلطوية المسيطرة، أيديولوجيا سلطوية قابلة للتصرف حذفاً وإضافة؟ وما مآل الفلسطينيين إن كانت قوتهم المفترضة من الدعم العربي لقضيتهم؟ وكيف يمكن تجديد الاشتراكية، وهي تركيب نظري يتكئ على موروث فلسفي نقدي، في زمن انطفاء السياسة وتداعي الثقافة؟ ساءل كريم مواضيع يعرفها، ويعرف أكثر صعوبة الإجابة عنها، محاولاً إجابات نسبية، مستنجداً بغيره إن كان ممكناً.

يعيدنا الأستاذ مروة، وهو يواجه صخرة الواقع، إلى القول المعروف: "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، ويعيدنا قبله إلى مسؤولية المثقف، التي أخذها من رئيف خوري وعمر فاخوري وحسين مروة وفرج الله الحلو، وغيرهم، كما جاء في مطلع الكتاب. ويحيلنا قبل هذا وذاك إلى تجربته الكفاحية، و"حرص استثنائي" على الإخلاص لها، وتمسك بالهوية الفكرية - السياسية لا تهاون فيه، يرى في ماركس أكبر مفكر في تاريخ البشرية، كما جاء في كتابه، ويؤمن بأن مسؤولية "المثقف الثوري" سياسية وثقافية، ولا علاقة لها بالسياق، إلا قليلاً.

بعيداً عن خطاب تلفيقي، اعتاش عليه مثقفون كثيرون طويلاً، يرثي حال العالم العربي "ككل" ولا يتهم "أحداً"، عرف كريم مروة أن المثقف يتعرّف بموقفه من السلطة السياسية وذلك في عالم عربي ترى سلطاته في شعوبها العدو الوحيد، ويتحوّل قادته إلى "استراتيجيين كبار" في مصادرة الحاضر والمستقبل، بعد عقود من إنجاز ثنائية الفساد والاستبداد. لذا كتب مروة: "إن أول مهام التغيير في بلادنا هو توفير الديموقراطية، ذلك أن التوحّش والفساد أشد وافدح بغياب الديموقراطية منه في وجودها. ص: 35". والواضح الذي لا تنقصه السخرية هو ندرة الديموقراطية في العالم العربي وتوفّر التوحّش والفساد توفراً نموذجياً. يقول مروة أيضاً: "بلداننا تعيش مأزقاً مزمناً أوصلتنا إليه أنظمة الاستبداد بإقفال الطريق أمام معارضيها للعمل في سبيل التحوّل الديموقراطي. ص: 38". نسي الأستاذ مروة أن يقول: إن المأزق المزمن ينتهي إلى التعفن والتفكّك.

في حديثه الذي يروم إصلاحاً متعدد الأبعاد، يتكشّف العالم العربي ظاهرة توازي المجتمعات الإنسانية "المتقدمة" ولا تتقاطع معها، ويتحول كريم مروة نفسه إلى ظاهرة مقاومة تواجه "الواقع المستحيل" بقوة الإرادة، وتحتفي بكرم الحياة، الذي يقصّر المسافة بين الشيخوخة والشباب، ويجعل "الشيخ اللبناني الماركسي" يحاور الراهن ويندفع إلى المستقبل.

وزّع كريم فكره الحواري على قضايا ائتلف معها، وأضاف إليها قيم الإخلاص وجماليات الصداقة. يتألف الكتاب من خمسة أقسام متكاملة، عالج أولها علاقة الثقافة بالسياسة وأسباب قيام الثورات العربية والمراجعة النقدية للتجارب السابقة، وتناول الثاني الدولة المدنية الحديثة والفصل بين الدين والدولة وقصور الجامعة العربية وخصوصيات البلدان العربية وقراءة نقدية للعلاقات الروسية - العربية من زمن القياصرة إلى زمن بوتين. تحدث في القسمين الثالث والرابع عن قادة لبنانيين - كمال جنبلاط وريمون إدة - وأرسل تحية إلى أصدقاء العمر "محسن إبراهيم ونديم عبد الصمد وميشال إدة، وحبيب صادق الذي بدأ شاعراً وتخلى عن كتابة الشعر وجعل من الشعر سلوكاً وممارسة ونمط حياة،..

القسم الأخير، وعنوانه في البحث عن المستقبل، فموضوعه "الحقيقة اللبنانية" بلغة عمر فاخوري، أو لبنان الحقيقي الذي ينشده كريم مروة، ويجتهد في مساءلة الدروب المفضية إليه: من أجل يسار لبناني جديد، ومن أجل "تيار ديموقراطي مدني عابر للطوائف وبرنامج واقعي وعقلاني من أجل التغيير الديموقراطي في لبنان". إذا تأمل القارئ الأبعاد التي يحتاجها تجديد لبنان، وتضمن الديموقراطي والمدني وغير الطائفي والواقعي والعقلاني، وقف هذا القارئ أمام بلد يعيش خارج الأزمنة الحديثة.

انطوى كتاب: "فصول من حواراتي وكتاباتي" على ثلاثة فضائل أساسية: فضيلة الوضوح التي تشرح الواقع العربي، كما اللبناني، في مستوياته المتعددة، اتكاء على معرفة متقادمة متجددة، وفضيلة الشجاعة التي تقول "الحق"، بعيداً عن لغة المجاملات والهمس الديبلوماسي، وفضيلة الوفاء التي تمزج بين الحقيقة والإخلاص. في تذكيره بقادة وأصدقاء مارسوا الصدق، نظراً وعملاً، يرد كريم مروة على واقع عربي "أهين" فيه كل شيء. يؤكد في كتابه أكثر من مرة أن الإنسان قيمة عليا في هذا الوجود مواجهاً عالماً عربياً له صفتان: الاحتضار الطويل، والخروج من التاريخ.

يدعونا كريم مروة في النهاية إلى التفكير بعالم عربي تتقن أنظمته، منذ عام 1948، التحكم بشعوبها وتتقن العبث بحاضره ومستقبله.

كاتب فلسطيني

1 - كريم مروة: فصول من حواراتي وكتاباتي، في الفكر وفي السياسة وفي العلاقات الإنسانية.

الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2018، 250 صفحة