التاريخ: تشرين الثاني ٣, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
يوميات حياة تشهق أنفاسها في البحر الميت - موسى برهومة
الذين علّقوا على حادثة البحر الميت في الأردن، التي أودت بحياة واحد وعشرين شخصاً غالبيتهم طلاب مدارس، استعملوا تعابير عاطفية عديدة من بينها أنّ الضحايا في أخفض نقطة على سطح الأرض ارتقوا إلى أعلى نقطة في السماء، وأنّ المطر المنتظَر لريّ الأرض العطشى تحوّل إلى خطر داهم، قتل النفوس وأصاب أرواح ذوي الضحايا بالألم المبرّح. ولم يعدم الأمر تعليقات من أشخاص، معدومي الضمير، ربطوا بين الحادث والغضب الإلهي!

كان يوماً مأساوياً نشر الحزن على بيوت الأردنيين كافة. وكان يمكن الحادث أن يمر باعتباره إحدى مفاجآت الطبيعة، لولا ما رافقه من وقائع توحي بأنّ الكارثة المرعبة كان يمكن تفاديها، لو أنّ الدولة بأجهزتها كافة تعمل بالكفاءة المنشودة.

لن ينهض الضحايا من نومهم، إذا أمعنّا في إلقاء اللوم على نظام إداري بيروقراطي مترهل يسيطر على غالبية مرافق الدولة التي كشفت الحادثة المأسوية عن عقم التخطيط، وتباطؤ ردود الفعل فيها، وانعدام الرقابة، وعدم إقامة أي وزن لشروط السلامة والأمان، والاستهتار بقيم الحياة التي جعلت القائمين على الرحلة والمسؤولين في وزارة التربية والجهات ذات العلاقة يعترفون بعدم اطلاعهم على نشرة الأحوال الجوية في ذلك اليوم، الذي لم تكن فيه السيول التي جرفت حافلة الطلاب والأشخاص في المنطقة، مفاجئة، ولم تنجم عن انهيار سد، أو عن حادثة تخريبية أو سواها، بل كانت جزءاً من سياق طقس متقلّب في أيام غمرت خلالها السيول وأغرقت شوارع بأكملها في عديد مناطق في المملكة، لكنّ أحداً لم يأخذ هذه المعطيات على محمل الجدية!

أخطاء عدة لو لم تحدث لكان الضحايا بين ذويهم الآن، ولراح الفتية الصغار يقصون على رفاقهم بألم كيف ألغت الجهات المعنية الرحلة، لأنّ دائرة الأحوال الجوية حذّرت الناس من الاقتراب من الوديان ومجاري السيول في ذلك اليوم، أو أنّ وزراة التربية والتعليم منعت الرحلات المدرسية، أو لو أنّ «المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات» يعمل بالوتيرة الخلاقة التي أنشىء من أجلها، لا سيما أنه، وفق تقرير لـ «سي إن إن» في 2014، كلّف ما يناهز 100 مليون دينار (زهاء 140 مليون دولار) وهو يقوم على 18 دونماً وينخفض 40 متراً تحت الأرض ومجهز لمواجهة الزلازل وهجمات صاروخية وكيماوية، وتجهيزاته الفنية تؤهله، كما أشار أحد الكتّاب الأردنيين، للقدرة على «التنبؤ والتوقع والرصد المبكر والإنذار والتخطيط ورسم السيناريوات للاحتمالات والإجراءات الوقائية وغرفة عمليات للرقابة والمتابعة بأحدث الوسائل التكنولوجية، ثم التعبئة والتنسيق مع مختلف الجهات المعنية وتنفيذ عمليات الإسعاف والإخلاء والاتصال مع ذوي المصابين إلخ...».

بيْد أنّ شيئاً مما تقدم، لم يحدث. بل حدث ما هو أفظع من ذلك، إذ دخل ذوو بعض الضحايا في نزاع مع الجهات الرسمية الأردنية من أجل تحديد هوية أبنائهم الموتى، وبقيت الفتاة سارة أبو سيدو مجهولة الجثة، حتى اعترف الطب الشرعي، بعد أكثر من يومين، بأنه تم تسليم جثتها إلى عائلة أخرى «بالخطأ». ولاحقاً، كما أفادت الأنباء، اتفقت عائلة الفتاة، مع عائلة طفلتين أخريين توفيتا أيضاً في الحادثة ذاتها، على عدم نبش قبر ابنتهم سارة والإبقاء عليها مدفونة في محافظة جرش، شمال العاصمة عمّان.

راح كثيرون في حمّى الغضب يطلقون على المأساة أنها «موت مجاني» بسبب التقصير والإهمال وغياب التخطيط وانعدام الرؤية الإستراتيجية، والأهم من ذلك كله عدم توقير الحياة وتمجيدها، مع أنّ الأردن كان سبّاقاً في رفع شعار «الإنسان أغلى ما نملك».

وعلى رغم عتمة الألم وفداحة الفقدان في هذه المأساة التي صدّعت قلوب الأردنيين، إلا أن أدوار بطولة حقيقية بزغت كضوء في نهاية نفق طويل، سجل أصحابها مآثر شجاعة حين هبّوا لإنقاذ الضحايا، وبعضهم ضحى بروحه من أجل هذا الهدف النبيل. وبفضل ذلك سيبقى المرء ينظر إلى نصف الكأس الملآن، كيلا يسقط في ظلام تصوّرات عدمية تجعل الحياة «أضيق من مرور الرمح في خصر نحيل»!

* كاتب وأكاديمي أردني.